مجزرة الحولة وثقافة الجزار-صبحي حديدي
مجزرة الحولة وثقافة الجزار-صبحي حديدي
ثمة عناصر، عديدة، يسهل على معارضي النظام السوري التوافق عليها عند قراءة حدث جلل، وفاصل ربما، مثل المجزرة التي ارتكبتها قوّات النظام ومفارزه الأمنية وقطعان الشبيحة في بلدة الحولة، وذهب ضحيتها أكثر من مئة شهيد، بينهم قرابة 50 من الأطفال، وغالبية من النساء، فضلاً عن وقوع جرحى بالمئات. وثمة، في المقابل، توافق لا يقلّ سهولة لدى أنصار النظام، يُختصر في تكرار الأسطوانة المشروخة، حول مسؤولية ‘العصابات المسلحة’، و’المندسين’ و’القاعدة’ و’الجيش السوري الحرّ’، عن هذه ‘العمليات الإرهابية’، وكذلك عن تفجيرات دمشق وحلب ودير الزور. وليس ثمة توافق، أغلب الظنّ، عند ‘الفئات الوسيطة’، إذا جاز التعبير، الحائرة بين معارضة النظام وتعليق الآمال على التفاوض معه حول ‘حلّ سياسي’ لـ’الأزمة’: هناك قائل يرى أنّ عسكرة الانتفاضة هي التي تدفع النظام إلى التغوّل؛ وهناك مَن هو أكثر عبقرية، وانتهازية بالطبع، يرى أنّ المجزرة ممارسة فردية (تماماً كأعمال الاغتصاب والخطف) لا تمثّل اتجاه النظام العام!
وفي تعداد بعض العناصر التي يحسن أن يتوافق عليها معارضو النظام، هنالك افتراض بسيط يقول إنّ وحوش مجزرة الحولة هم قطعان ضباع متعطشة للدماء، حاقدة في مستوى الغرائز الوحشية الصرفة، وكذلك في مستويات التعصّب الطائفي الأعمى، ونزوعات الانتقام العشوائي، أو الانتقائي أيضاً. افتراض، مكمّل وجدلي، قد يفيد بأنّ هذه القطعان لم ترتكب ذلك الفعل، الإجرامي الشائن والهمجي والمتجرّد من كلّ حسّ إنساني، إلا لأنها منهزمة لتوّها، مذعورة من حساب الشعب والتاريخ، مفلسة في حاضرها ويائسة من مستقبلها، لاهثة إلى حضيض حتمي صار قاعدة وجودها، أو انقلب إلى نظير للعدم ليس أكثر. وأنها، هذه القطعان، لا تحمل تلك المواصفات، ولا تنتظم في ذلك المنطق، إلا لأنها على شاكلة النظام الذي تنتمي إليه، وتناصره، وتنخرط في معاركه، وهي بعض أشدّ أدواته وحشية وعماء وإجراماً.
إلى هذه كلها، لا يغيب ذاك العنصر الذي لم يتوقف النظام عن اعتماده منذ انطلاقة الانتفاضة، لا بوصفه خياراً تكتيكياً طارئاً أو وليداً، بل لأنه كان ويظلّ استئنافاً ضرورياً لأحد الركائز الكبرى التي اعتمدتها ‘الحركة التصحيحية’، والتي دشّنها حافظ الأسد وتابع تنفيذها وريثه الأسد الابن: الاشتغال على التفريق، والتفرقة، بين طوائف المجتمع السوري، بطرائق تخلق ما يتيسّر من أجواء التوجس والبغضاء والفتنة، من جهة أولى؛ وزرع اليقين الثابت في نفوس أبناء الطائفة العلوية بأنّ عقائدهم وطرائق عيشهم وعاداتهم وتقاليدهم وامتيازاتهم الراهنة (التي مُنحت للبعض منهم على نحو تمييزي مقصود، ومنهجي منظّم)، ليست هي وحدها المهددة؛ بل أنّ وجودهم، في كلّيته، سوف ينقرض تماماً ونهائياً، ما لم تنتسب الطائفة، برمّتها أو في غالبيتها الساحقة، إلى صفّ النظام، وتقاتل في معارك البقاء التي يخوضها.
وكما فشلت محاولات النظام الكثيرة، في تأليب طائفة ضدّ أخرى، أو في اللعب على مخاوف الأقليات الدينية أو المذهبية أو الإثنية (الأمر الذي أطاش صواب الأجهزة كلما ارتد مخطط خبيث إلى نحور صانعيه، ودفعها إلى مزيج من التعنت والتخبّط في آن معاً)؛ كذلك يتوجب أن تنقلب مجزرة الحولة إلى نقيض ما أرادته الأجهزة من ارتكابها: إلى حاضنة وطنية جبارة، تستلهم أرواح الشهداء، الأطفال منهم بخاصة، على نحو يستولد وعياً رفيعاً بحقائق المخطط الخبيث، ويمنح الانتفاضة طاقة جديدة وتجديدية، ويرفد ثقافة المقاومة الشعبية بخطوط تآلف أعمق وأصلب. وأياً كانت مقادير التفكير الرغبوي في هذا الوجوب المطلوب، فإنه يظلّ غاية حقّ وحقيقة، من جهة أولى؛ وحصيلة أخرى إضافية، واقعية وفعلية، شهدت على ولادة مثائلها أحداث كثيرة سابقة، من جهة ثانية.
يبقى، بالطبع، ذلك الدرس التاريخي الذي لا يجوز نسيانه البتة، أو تناسيه: أنّ إدانة المجزرة، على ألسنة هيلاري كلنتون أو وليام هيغ أو لوران فابيوس أو غيدو فيسترفيله، لا تطمس حقائق مجازر أسوأ ارتكبتها بحقّ الشعوب قوى عظمى مثل أمريكا أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا. لا تحجب، كذلك، وقائع سكوت هذه القوى عن، أو تواطؤها مع، جرائم حرب شتى اقترفتها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين، وتقترفها كلّ يوم، دون رادع أو إدانة أو استنكار حتى على المستوى اللفظي. ومنذ القرن الثامن عشر كان الأسكتلندي آدم سميث، مؤسس علم الاقتصاد السياسي، هو الذي عزى تفوّق أوروبا إلى ابتكارها ثقافة العنف، وتحويل الحرب إلى علم، وإلى استثمار. وفي القرن ذاته كان جورج واشنطن، أوّل رئيس أمريكي، هو الذي قال: ‘إنّ التوسيع التدريجي لمستعمراتنا كفيل بطرد الهمجيّ والذئب على حدّ سواء، فكلاهما وحش برّي وإنْ اختلفا في الهيئة’. وأمّا في أواسط القرن اللاحق، فقد كان المشرّع الهولندي هوغو غروتيوس، مؤسس القانون الدولي الحديث، هو الذي جزم دون أن يرفّ له جفن: ‘أكثر الحروب عدالة هي تلك التي تُشنّ ضدّ الوحوش. وثمة بشر يشبهون الوحوش’.
أليس اتكاء الأسد الابن، وقبله الأسد الأب، على ثقافة ‘الجزّار المتمدّن’ هذه، هو بعض السبب في اطمئنان النظام إلى تنفيذ عشرات المجازر، منذ المشارقة وحماة وسجن تدمر، إلى إزرع وكرم الزيتون والحولة؟