مضايا – أحمد جميل عزم
تقرع المشاهد الآتية من مضايا، في ريف دمشق الغربي، عند الكثيرين مشاهد حصار المخيمات في لبنان أواسط الثمانينيات؛ عندما حاصرت المليشيات التابعة للنظام السوري مخيم برج البراجنة، حتى ذاع أن أهله طلبوا فتوى لأكل جثث الموتى، بعد أن أكلوا لحم الكلاب والقطط. وبالفعل، طرقت الأنباء الأولى لمشاهد مضايا هذه الذكرى عندي. لكن بعد رؤية المشاهد المصورة هذه الأيام، وددت لو أرد على من غنى « المجزرة بتهز حتى الموت »، أنّ الموت لم يهتز، ورأيت مضايا ضمن شريط أطول.
أخذ « حمزة شط البحر » الشطر الثاني من اسمه من تفضيله مهمات الحراسة في المخيم الفلسطيني في لبنان، على الشط، بعد تركه دراسة الأرصاد الجوية في الجامعة ليتفرغ للثورة، فصار حارساً واشتهر ببراعته في قراءة الغيم والطقس، من دون أن يترك مكانه أثناء العاصفة. وفي يوم بارد جداً، في السبعينيات في المخيم ذاته، بحث أبو العسل عن حصانه الهرم الذي ينقل البضائع عليه، ولمّا يئس دخل المخبز، وكان الزهيري يشعل ناره، وكان يحب مخبزه. ودخلت « السنيورة »، المرأة « سيئة السمعة » في المخيم. حاولا طردها بالتذرع « لن نخبز قبل ساعة »، فأخرجت نقودا من صدرها ونهراها. كانت أسنانها تصطك، وترتجف، وخطر لأبي العسل أنها تشعر بالبرد، وجلست، على حجر. فرمى الزهيري « رغيفاً نيّئاً » في النار وعندما نضج أعطاها إياه. ودخل كلب عجوز، ونهره الزهيري، ولم يخرج وأقعى جالساً، وقال أبو العسل: « لا أحد يسمع اليوم ». وقطعت السنيورة الرغيف فخرج البخار الساخن، ورمت كسرة للكلب، فأكل وأكلت. ونظر الزهيري للنار، كان هو « ملك الدفء. كأنه ولد أمام بيدر من النار. كأنه ولد أمام قبس من نور الله.. الطيبة والدماثة والقدرة على (الغناء) والزجل وحبّ الناس ». وصارت السنيورة معهم، وعم الدفء وخرج الارتجاف، وقالت: « لا تؤاخذوني يا جماعة كان البرد يجرح عظامي ».
تنظر إلى مضايا المحاصرة، تأتيك الأنباء أنّ حزب الله يحاصرها. تتمنى أن الأنباء كاذبة، لو أنك تشاهد تزويراً وكذباً. تأتي صورهم يمشون في الثلج. صور الطفلة الصغيرة، زرقاء العينين موردة الوجه، ثم وهي تعيش الفاقة والجوع تحولت إلى هيكل عظمي. وتكتبُ فتاةٌ ترقب الصورة: « وتهمس هذه الجميلة للجوع ما أقساك! ». وأبٌ يبكي أولاده الجوعى. وتتساءل هل يعقل ما يقوله طبيبٌ للإعلام، أنّ مكتب الأمم المتحدة المعني رد على رسائلهم أن الفريق العامل في المكتب في إجازة أعياد الميلاد من 24 /12 حتى 5 /1؟!
مائتا حالة إغماء يومياً، والذين يحاصرون المخيم يتقاضون مائة وخمسين دولارا ثمن كيلوغرام حليب أو سكر!
كانَ شابٌ في عاصمة عربية، بيته حديثٌ دافئ، يسير قبل خمسة وعشرين عاماً في البرد القارس، يكره الوصول إلى البيت، يشعر بالغضب الشديد، لماذا يخونون الثورة؟ لماذا يَفسَدُونَ ويُفسدون؟
هل كان لزاما على المعارضين والثوّار أن يتحصنوا في مضايا، فيعطوا النظام مبرراً؟! لا يمكن أن تسأل السؤال ذاته عن « النصرة » و »داعش » فهما والنظام لا يُسألون عن الحياة. كيف لا ينظّف حزب الله اسمه من الجريمة؟
هل لو تركوهم لتدبروا أمرهم كما في ذلك المخيم؟
كان الزهيري، الفرّان، عاشق الدفء هو بطل رواية يحيى يخلف، نشيد الحياة، الصادرة مطلع الثمانينيات.
كل مآسي الحرب العالمية الأولى، والثانية، ونكبة فلسطين، يختزنها هذا السائر في بياض الثلج في مضايا. كل شيء حوله أسود ورمادي، إلا الثلج البارد!
يناشدنا أحد المحاصرين أن نتوقف عن الأكل، أن ندق الطناجر، أن نزعج العالم.
أخشى أن يأتي يوم بعد ثلاثين عاماً، نتذكر مضايا بأفلام ومقالات وروايات، كما نتذكر برج البراجنة، ويأتي تصوير المشهد في الثلج والبرد والسينما الدافئة، ويكون هناك حينها مضايا أخرى.
وما يزال ذلك الشاب، منذ خمسة وعشرين عاماً، يسأل كيف تموت الثورة؟!
كان الزهيري يعمل طوال النهار بإحضار الطحين من مكان بعيد للمخيم، ويتخيل الأرغفة تنضج في بيت النار، والشاحنة تسير والقذائف تسقط. وسقط في كمين إسرائيلي، أسروه وحققوا معه، جعلوه يخلع جاكيته، وقميصه، وبنطاله وملابسه الداخلية، أخرجوه في العراء، جعلوه يقفز في البرد عارياً، قلبه يقفز، والرذاذ يتساقط و »عند الفجر صار جثة هامدة بوجه أزرق »، مات برداً.
وما تزال ثورة الإنسان تسأل أين أنتم؟