مقال عن الخجل – الياس خوري
نعم أشعر بالخجل، وأعتقد ان الكثيرين من اللبنانيين يشعرون بالعار منذ تلك اللحظة اللعينة التي اقر فيها ما أطلق عليه اسم القانون الانتخابي الارثوذكسي . صحيح ان القانون المذكور لم يصل الى مرحلة الاقرار النهائي، وأغلب الظن انه لن يصل، لكنه نجح في ايصال انحطاط السياسة اللبنانية الى الذروة.
عار وخجل واحساس بأن اللعنة الطائفية وصلت الى نهاية اللعبة، ونهايتها لها اسم واحد هو الفضيحة.
ثم اتت مواقف وزير الخارجية اللبناني السيد عدنان منصور في الجامعة العربية، عبر تفرده بالدعوة الى اعادة النظام السوري الى الجامعة، لتعلن التفكك الكامل لما تبقى من مؤسسة دولة اتفاق الطائف، وتضفي على القتال الذي تخوضه مجموعات مسلحة من حزب الله ضد الثورة السورية غطاء لشرعنة القتال المذهبي في المنطقة.
فضح هذا القانون العنصري، الذي يجعل من المواطن اللبناني اسير غيتو طائفته، اللعبة كلها. فالطبقة السياسية اللبنانية بمختلف اطيافها تريد تفصيل قوانين انتخابية على مقاس زعاماتها الطائفية. بحيث يتحول لبنان الى مجموعة من الكانتونات المحكومة بامراء الطوائف، الذين يتابعون صراعاتهم على التهام ما تبقى من لبنان.
قد نقول ان هذا التطور منطقي، فبعد سبعين عاما من الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، ثبت ان نظام دولة لبنان الكبير، بحروبه وهدناته، لم يكن سوى توسيع لرقعة المتصرفية واخضاع لمدن الساحل لمنطق مجلس الادارة الطائفي. وفي حين كان نظام المتصرفية منضبطا بتسوية دولية جعلته بمنأى عن الانفجارات الأهلية، من دون ان يعني ذلك تحويل المتصرفية الى حقيقة قابلة للحياة، فإن نظام الجمهورية الطائفي كان عرضة لاهتزازات دورية، ناجمة عن تغير موازين القوى في المنطقة. وقد تنبه منظّر جمهورية التوازنات الطائفية ميشال شيحا، الى خطر انهيار المشروع برمته بعد تأسيس الكيان الاسرائيلي، وانكفأ بعد حماقة رئيس جمهورية الاستقلال بشارة الخوري بالتجديد لنفسه.
لكن ما يبدو منطقيا يحمل في الوقت نفسه بذور الحماقة والعبث. فمؤسسات الطوائف اللبنانية المختلفة لم تتعلم شيئا من دروس الحرب الأهلية. المؤسسة المارونية التي اقتنص ميشال عون قيادتها المؤقتة تعيش في وهم القدرة على استعادة زمام السلطة الكاملة. لم تتعظ المؤسسة المارونية بشقيها السياسي والكنسي من كارثة هزيمتها المروعة بعد تحالفها المشين مع اسرائيل، فإذا بها اليوم تلتحق بنظام الاستبداد السوري، معتقدة انها تستطيع عبر حلفها مع حزب الله، ان تفرض ايقاعها السياسي، الذي لا يحمل اي مضمون، والذي خان آمال ما تبقى من الطبقة الوسطى اللبنانية في الخلاص من الفساد والطائفية.
اما المؤسسة السياسية الشيعية، بقيادة حزب الله، فلقد ارتضت الاطاحة برأسمالها الرمزي المقاوم، من اجل ان تتحول الى جزء من الدفاع عن النظام الاستبدادي السوري، معتقدة انها تستطيع بقواها العسكرية الضخمة، ان تحول لبنان الى رهينة للسياسة الاقليمية الايرانية. المؤسسة الشيعية تكرر خطأ المؤسسة المارونية ولو بطريقة معاكسة. فالوطن يمكن الاستغناء عنه اذا كان ذلك يصب في مصلحة الطائفة، ومصالح رعاتها الأقليميين.
السنية السياسية التي تحولت الى شبه مؤسسة بعد اغتيال الحريري، فإنها تتخبط في الانتظار، وتدير سياستها على ايقاع اقليمي تقوده المملكة السعودية. لذا فهي في رفضها للمشروع المسمى ارثوذكسي، عاجزة عن تقديم بديل وطني.
اما الطوائف الأخرى، فإنها خائفة من ان تبتلع على المستوى السياسي، بسبب صغر حجمها، وهذا يفسر التباسات موقف الحزب الاشتراكي على سبيل المثال.
لكن الكوميديا الطائفية تصل الى ذروتها مع اسم هذا القانون. اذ لم يسبق في تاريخ لبنان وسورية وفلسطين ان أشير الى وجود ارثوذكسية سياسية. فالاسطورة التي جمعت ابناء هذه الطائفة منذ نهاية القرن التاسع عشر هي انهم احفاد الغساسنة، وان عروبتهم هي فوق انتماءاتهم الأخرى. غير ان سيل الانحطاط العام الجارف، فتت هذه الاسطورة وجعلها اليوم مطية هذا القانون المخجل، وبذا تثبت البنى الطائفية انها قادرة على ابتلاع الجميع، وان سياسيا مثل السيد ايلي الفرزلي الذي عرف ‘بصداقته’ لنظام الاستبداد السوري، نجح في جرّ الجميع الى ملعب الانهيار الأخلاقي، والى تلويث سمعة مجموعة دينية، بدأ انحدارها في الحرب الأهلية، ليصل الى ذروته اليوم مع الرهاب من الاسلام السياسي.
ما يسمى بالقانون الارثوذكسي لا يستحق نقاشا، لكنه يعلن ان البنى السياسية الطائفية المهيمنة قررت التخلي عن دورها الداخلي لتنصرف الى اطاحة حدود لبنان الكبير عبر انغماسها في صراع المنطقة الذي تقرأه بوصفه صراعا طائفيا.
وتبرير هذا التوصيف للصراع في المنطقة يأتي من عراق ما بعد الغزو الأمريكي، ومن اندفاع ايران والسعودية وقطر الى خوض الصراع على الأرض السورية بصفتها صراعا طائفيا!
سواء أكان الصراع في المنطقة طائفيا ام لا، فإن القراءة اللبنانية لهذا الصراع تعني الاطاحة الكاملة ببنى الدولة، كما عرفناها منذ تأسيس دولة لبنان الكبير. هذا الحمق الذي تندفع اليه المؤسسات الطائفية اللبنانية سوف يعني استحالة اجراء انتخابات نيابية يعقبها شلل كامل في مؤسسات الدولة، قد يقود الى انهيار اجتماعي لا يعلم احد ما هي حدوده.
ولعل الأذن الصماء التي ادراتها الطبقة السياسية برمتها لمطالب المعلمين، ولقرارات تصحيح سلم الرواتب والرتب الذي بقي حبرا على ورق، يقدم دليلا واضحا على انفصال هذه الطبقة الهرمة عن الواقع، ولهاثها خلف مكاسب سلطوية لم تعد ذات معنى.
هذا التحليل الذي كتبته اعلاه لا يبرر شيئا، انه يشعرني بمزيد من الخجل.
ففي مجتمع تنهض فيه حركة مطلبية كبرى، ويتمرد شبابه وشاباته ويذهبون الى الزواج المدني رغم كل شيء، اذا بنا نواجَه بغيتوات الطوائف وهي تقفل ابوابها وتمنع عنا الهواء والحرية.
في منعطف التغيير الثوري الكبير في المنطقة الذي تجسّد ثورة الشعب السوري المجيدة انبل ما فيه، لا نزال عاجزين عن ازاحة كابوس الطوائف، ولا يزال هذا الكابوس قادرا على تهديدنا بالموت والخراب والحروب الأهلية.
انه منعطف الخجل، ولم يعد هناك امام اللبنانيات واللبنانيين سوى الخيار بين الطائفية والوطن.
الطائفية ضد الوطن والمواطن، انها الوهم الذي يقودنا الى الموت.
فماذا نختار وكيف؟
http://www.alquds.co.uk/scripts/print.asp?fname=data\2013\03\03-11\11qpt998.htm