مملوك وسماحة و »صعلوك » -عيسى الشعيبي
أقرب ما يكون الأمر إلى عالم الخيال العلمي، وفضاءات رواية فنتازيا من أميركا الجنوبية، أن يصدر قاضي تحقيق لبناني مغمور مذكرة توقيف لا سابق لها، ليس ضد شخصية لبنانية نافذة ومحمية مثل ميشال سماحة الممسوك بالجرم المشهود، وإنما ضد اللواء علي مملوك صاحب المكانة الأرفع على سلم التراتبية الأمنية في البلد المحكوم بنظام أمني، كان حتى الأمس القريب يوقع اسمه الهلع في قلوب معظم اللبنانيين.
إنها من مفارقات الربيع العربي، وواحدة من تداعياته التي قد لا تتوقف في المدى المنظور، أن ينقلب حال البلد العربي الصغير من نعامة مهيضة الجناح منتوفة الريش، إلى شبل من السلالة الملكية في الغابة، شب عن الطوق فجأة، واكتملت لديه غريزة الوثب ومطاردة الفرائس بلا رحمة، في مشهد يدخل في باب « صدق أو لا تصدق » أيها الراغب -يا رعاك الله- في قراءة عالم الغرائب والمدهشات.
وأحسب أن الأكثرية الكاثرة من اللبنانيين المرهبين من سطوة الشقيقة الكبيرة، العارفين بطول ذراعها الضاربة في بلاد الأرز، قد اهتزت فرائص الكثيرين منهم، واجتاح النشاف حلوقهم، وهم يقرأون بين مكذب ومصدق أن واحداً من أبناء جلدتهم شرب كأساً طافحاً من حليب السباع، وخلع عن كتفيه بردة الخوف والرضوخ والإكراه، وتجاسر هكذا على ذاته، قبل أن يستأسد على الأسد نفسه ويقتحم عليه العرين.
لا بد أن الذين تجرعوا كؤوس الهوان، وصدعوا للأوامر والنواهي ولم ينبسوا ببنت شفة، إلا أقل القليل منهم، وصبروا حتى عيل صبرهم على عاديات زمن الردع والقهر والإسكات، أعادوا قراءة خبر ملاحقة سيد أسياد الأمن في قلب العروبة النابض بكل مظاهر الاستقواء عليهم، ثم عاودوا قراءته كلمة كلمة، وربما قرص أحدهم نفسه، قبل أن يتبادلوا أسئلة قصيرة بين بعضهم بعضاً: هل سمعت بمذكر توقيف علي مملوك؟ هل الخبر صحيح؟ وماذا بعد؟
وقد لا يعرف الكثيرون بيننا، ممن لم يشاهدوا بأم العين كيف كان نظام الممانعة يدير مقاليد لبنان بتعسف لا حد له، ويقبض على رقاب العباد المستضعفين بتلذذ وسادية، مغزى أن يتجرأ واحد من هؤلاء المأخوذين من دواخلهم، المقموعين حتى نخاع العظم، ليس على إرسال نظرة خاطفة في عين مخبر حمراء تقدح الشرر، كان يأمر فيطاع بلا تأفف، وإنما على طلب كبير رجال أمن الشام -نعم الشام- للمثول أمامه، وربما توقيفه على ذمة قضية إرهابية مشينة.
إنها لحظة تاريخية فارقة ستحتل مكانتها الباذخة في حياة البلد المستباح، وتتربع طويلاً في ذاكرة أبنائه الطيبين، ممن منّ عليهم الربيع بهذا الفضل العميم، وأسدت إليهم الثورة السورية بهذا المعروف الذي بدل حالهم بحال، ورد قلوبهم إلى مواضعها بعد أن زاغت عن مواضعها لجيلين على الأقل، فباتوا بين عشية وضحاها، بفعل خطيئة من كان بالأمس القريب خطؤه دائماً مغفوراً، وسعيه أبداً مشكوراً، قادرين على رد التحية بمثلها، وكيل الصاع صاعين وأكثر.
ولا يمكن فهم هذا التحول الا على خلفية أن المملوك قد خفت موازينه، وانكسر على الملء صولجانه في عقر داره، إلى الحد الذي جعل الصعاليك، وفق رؤيته السلطوية المتغطرسة، يخرجون على ناموسه، ويشقون عليه عصا الطاعة في بيروت التي بدت في متناول يده، ويعبرون حاجز الخوف الذي عبره السوريون دفعة واحدة. الأمر الذي يؤكد على أن الزمان قد دار دورة كاملة، وأن لبنان قامت قيامته بدون رجعة.
بكلام آخر، فإنه بقدر ما أعادت الثورة جلاء وجه سورية الأصيل، وردت السوريين إلى أنفسهم بعد نحو أربعين سنة من التيه في فيافي التشبيح واليباب والاستبداد، بقدر ما أدت إلى ولادة لبنان جديد، أحسب أنه قادر، بعد وقت قصير، على الانعتاق من أسره وكسر قوقعته، واستعادة صورته الحقيقية، بعد أن دخل الأسد في خريف عمره السياسي، وبات بلا مخالب حادة ولا وهرة زائفة.