.. من بطيخ حوران! – صبحي حديدي
جاء في الأنباء أنّ المزارع الياباني هيروشي كيمورا نجح في إنتاج بطيخ على شكل قلب، حلو في الشكل والمذاق معاً، ويصلح ـ فضلاً عن الغذاء، بالطبع ـ هدية طريفة في عيد الحبّ، كما تنبّه بعض العشّاق. من جانبه، كانت فرحة كيمورا غامرة لأنه تمكن من تهجين ثمرة تتيح لزبائنه أن ‘يأكلوا شيئاً لذيذاً، وبشكل بديع′ في آن معاً، كما صرّح.
ليت هذا الياباني المجتهد يتعرّف إلى مواطن سوري، مهندس زراعي، يُدعى محمد الزعبي (لا أعرف له أرضاً اليوم، راجياً أن يكون على قيد الحياة بادىء ذي بدء)؛ لأنه نجح، قبل عشر سنوات إذا لم تخنّي الذاكرة، في إنتاج بطيخ فريد حقاً، وزن الثمرة الواحدة منه يتجاوز 60 كيلوغراماً، أي ما يكفي لإطعام أكثر من مئة شخص! كذلك فإنّ في رأس محاسن ذلك الصنف من البطيخ أنه منتخَب، غير مهجّن، وغير معدّل وراثياً؛ الأمر الذي يعني إمكانية زراعة بذور منه، تنتج نفس الصنف والوزن. والشروط المطلوبة ليست خارقة للمألوف، بل تتوفر في العديد من مناطق سورية الزراعية: صيف حارّ وجافّ، وتربة غضارية خفيفة، وريّ بالتنقيط.
وحين بلغني الخبر في حينه، انتابتني فرحة مضافة إلى تلك النابعة من الحسّ الوطني السوري الصرف، لأنّ المزرعة التي أنتجت ذلك البطيخ تقع في محافظة درعا، أو حوران كما نقول في سورية حين نصف تلك المنطقة على نحو أعرض. فهذه المحافظة الخيّرة ظُلمت مراراً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً أيضاً، رغم أنها بين أبرز أهراء سورية (تماماً مثل منطقة الجزيرة)؛ ليس في إنتاج الحنطة الحورانية الشهيرة فحسب، بل أيضاً في إنتاج الشعير والزيتون والعنب والخضروات واللوزيات. وكان الشاعر الأردني عرار (1897 ـ 1949) قد امتدح خبزها القمحي في بيت شهير: ‘فلا عليك إذا أقريتني لبناً/ وقلت خبزتنا من قمح حوران’.
فكيف لا يتضاعف الحسّ الأوّل ذاك، اليوم، في مناسبة المقارنة بين إبداع المزارع الياباني وإبداع المزارع السوري؛ ولكن، وهو الأمر الجوهري أكثر، على خلفية ما تعنيه حوران في وجدان الانتفاضة الشعبية السورية، حيث منها ‘هلّت البشاير’ كما تقول الأهزوجة الجميلة، وعلى ثراها سقط أوائل الشهداء؟ وكيف لا يزداد الفخار بحوران، الحاضنة التاريخية العريقة، بِنْت الوقائع الفاصلة في التواريخ القديمة والوسيطة والحديثة والمعاصرة؛ ساحة صراع قوى إقليمية كبرى عتيقة، كالأنباط والرومان قبل الفتح الإسلامي في القرن السابع؛ وصنو الجولان، العريق والخصيب بدوره، تلك الجيرة التي ألهمت النابغة الذبياني حين هتف، راثياً النعمان بن المنذر: ‘بكي حارث الجولان من فقد ربّه/ وحوران منه موحش متضائل’؟
وفي العودة إلى المهندس الزراعي السوري المبدع، أستعيد ابناً آخر لعائلة الزعبي، الكبيرة والكريمة، هو الراحل محمود الزعبي، الذي تولّى رئاسة مجلس الدمى الباصمة (أو ‘مجلس الشعب’ حسب تسمية النظام)، قبل أن يترأس سلسلة وزارات، طيلة 13 سنة. وكما ظلم الشارع السوري ‘الحماصنة’، أهل حمص الذين ضربوا الرقم القياسي في بلوغ سدّة الرئاسة السورية؛ كذلك فعل مع ‘الحوارنة’، من حيث تأليف النكات التي تدور حول مسائل شتى، ولكنها في الجوهر لا تبتعد البتة عن الموضوع السياسي. محتوى الظلم أنّ أهل حوران لم يستفيدوا كثيراً، بل إنّ معظمهم لم يستفد أبداً، من وجود ‘أبو مفلح’ في مجلس الشعب أو رئاسة الوزراء.
وكان رحيل الزعبي (الذي انتحر، أو نُحر، أو ‘انتُحر’…)، قد قطع استرسال ذلك المسلسل الذي عُرف، أواخر أيام الأسد الأب ومطالع تحضير الأسد الابن لوراثته، باسم ‘حملة مكافحة الفساد’؛ فأسدل ستاراً ثقيلاً ـ كان في الواقع مبكّراً، مفاجئاً، وعنيفاً أيضاً ـ على فصول مسرحية تراجيكوميدية، أُريد للزعبي أن يكون بطلها وضحيتها، معاً. الأمر الذي يردّ إلى البطيخ، إذْ نقول في بلاد الشام: ‘بلا كذا، بلا بطيخ’، دلالة على اليأس من أمر ما، أو السخط من عدم تحقّقه، أو نفض اليد منه أو استبعاده. والأرجح أنّ مواطناً صالحاً مثل المهندس الزعبي كان، وهو يبتهج لمرأى بطيخة تُطعم مئة آدمي، مخوّلاً في البرهة ذاتها بهمهمة ذات صلة بثمار السنوات الأولى من عهد الأسد الوريث، مفادها: ‘بلا إصلاح، بلا بطيخ!’…
له، كذلك، أن يستخدم الجزء الثاني من المقولة إياها، في توصيف ظاهرات شتى ذات صلة بالمشهد السوري الراهن، تخصّ جرائم النظام السوري، مثل مباذل معارضات على غرار ‘المجلس الوطني’ و’الائتلاف’ و’هيئة التنسيق’؛ وتخصّ أكاذيب ‘أصدقاء الشعب السوري’، مثل جعجعة ‘محور الممانعة’؛ وتفكيك ترسانة النظام الكيميائية، مقابل تركيب كلّ أسلحة النظام التقليدية الفتاكة؛ واليسار الغربي المتظاهر ضدّ أية ضربة عسكرية أمريكية، ثمّ اليسار نفسه صامتاً صمت القبور عن المجازر كافة، بما فيها تلك الكيميائية…
وهذه الاعتبارات، وسواها، لا تلغي حقّ المهندس الزراعي محمد الزعبي، الذي لا يقلّ إبداعاً عن زميله الياباني، في أن يستذكر بيتاً ثانياً من عرار، يقول: ‘سيمتْ بلادي ضروبَ الخسف وانتُهكتْ/ حظائري واستباح الذئب قطعاني’؛ قبل أن يتجذر أعمق في أرضه الحورانية، ويقاوم، وينتصر كلّ يوم؛ صحبة خبز من حنطتها، وبطيخ عبقري من نعميات بطاحها العبقرية!