من “مكتسبات الثورة” إلى الثورة – سلام الكواكبي
من “مكتسبات الثورة” إلى الثورة 17 آذار / مارس، 2017
جرت العادة أن ترهق أسماعنا عبارات جوفاء، ما فتئت تنهمر علينا طوال عقود، وتتحدث عما يُسمى باللغة الخشبية بـ “مكتسبات الثورة”. إلى درجة أن كثيرًا من معارضي الأنظمة الاستبدادية، على امتداد البلاد العربية، قد أمضوا عقودًا في المعتقلات بتهم تتنافس في الإبهام والسوريالية كما: “وهن عزيمة الأمة” أو “الإساءة لمكتسبات الثورة”.
عن أي ثورة نتحدث؟ إنها، والحال كذلك، التسمية التي يفرضها أغلب الانقلابيين على حركاتهم العسكرية، وقد صار من الضروري أن توصف انقلابات المتعطشين للسلطة بالثورة من قبل أصحابها وزبائنهم. تقليدٌ عريقٌ في دول ما بعد الاستقلال في المنطقة العربية التي كان الصراع على السلطة هو زادها اليومي. وأخيرًا، أطلق بعض الانقلابيين لقب “الثورة” على حركاتهم التي أجهضت ربيع بلادهم، كما حصل في مصر مثلًا سنة 2013. وفي كثير من البلدان العربية تم تسفيه العبارة بحيث أضحت عنوانًا لصحف حكومية أو لفرق رياضية، أمّمت وانتزعت من بيئتها بهدف تأطير المجتمع من السلطات الاستبدادية بجميع الأساليب وفي أنواع النشاط المختلفة، وصارت العبارة -إذن- مرادفة لحمولةٍ سلبيةٍ جدًا، دفعت جموع الناس للنفور منها واعتبارها من مخرجات الحكم الاستبدادي.
مع بداية الاحتجاجات في سورية في آذار/ مارس 2011، اختار “أصحاب” الحَراك، أي من أطلقه من الشباب، أن يصفوه بالثورة، فصار لهم ذلك مهما اختلف المراقبون والباحثون الحياديون الذين حاولوا كثيرًا في البداية وضع التسمية تحت المجهر، وإظهار أن للثورة شروطًا لم تتوفر ربما بكاملها في الانتفاضة السورية. وبمعزل عن المآلات والنتائج المؤلمة والترقّبات المتشائمة، إلا أن الملاحظة العلمية تكاد تجزم بأن السوريين قد قاموا بثورتهم سنة 2011.
لقد ثاروا على خوفهم الذي أقعدهم، كما آبائهم وأمهاتهم، عن مقارعة الظلم في ظل الأمنوقراطية التي التهمت الآلاف من المعتقلين، والتي نشرت ثقافة الوشاية التي كان الأقربون فيها هم الأولى بالـ “المعروف”. ثاروا أيضًا على مؤسسات الأمن التي ظنّت لعقود بأنها تكتم على أنفاسهم وبأن لا أحد من “الرعية” يجرؤ، حتى في المنام، أن يخرج صارخًا مطالبًا بحقوقه وبكرامته وبحريته. كما أنها ثورة على الذات التي ولدت وترعرعت في ظل الحكم المستمر والمتمدد للفرد الواحد وأسرته. إنها ثورة أيضًا على الخطاب الذي كان سائدًا في وصم الجيل الشاب بالعدمية السياسية وبالتخلي عن لعب أي دور غير ذاتي. ثورةٌ على “مستشرقين” دبّجوا الكلام عن عدم قابلية هذا الشعب للتغير، وانعدام إرادته وقدرته للوصول إلى تحطيم الأصنام الاستبدادية. هي ثورة على ثقافة التهميش الذاتي المنبثقة عن توارث الصمت عبر التقاليد العائلية التي أعملت فيها السنون خرابًا وعفنًا. ثورة أيضًا على الأولويات التي فُرِضَت من المستبد / المحتل للساحة العامة ولمساحات التعبير. أولويات جعلت من حقوق الناس وكرامتهم، في نظر السلطات، ترفًا لا تجدر معاقرته قبل تحرير جزر الواق واق من محتليها ومغتصبيها. إنها ثورة أدبية أيضًا بحيث أطلق العنان لأقلام المبدعين روائيًا وقصصيًا وشعريًا ووصفيًا، بعيدًا عن سلاسل الحديد السياسية والدينية. وهي ثورة أيضًا في الفن السوري الذي خرج من قمقم المؤسسات ليصير أكثر جزءًا من ثقافة مستقلة، يُبادر إليها أفرادٌ همّهم الإبداعي يتجاوز مساعيهم الحياتية. أيضًا وأيضًا، فهي ثورة في إعلام خشبي ملؤه السوس طوال عقود بحيث خرجت العشرات من العناوين الإعلامية الجديدة بسلبياتها وإيجابياتها، لتطرح رؤية مختلفة عن الوسط الإعلامي السوري الذي طالما تندّر المراقبون بأساليبه ما قبل الحجرية وبرسائله الترويجية الساذجة وبرقابته الاجتماعية/ الأمنية الصارمة.
وأخيرًا، وليس آخرًا، فهي ثورة المرأة السورية ضحية الحرب والسلم، الاستقرار والتوتر، الشرائع السماوية باستنتاجاتها الأرضية وتطبيقاتها الذكورية. فعلى الرغم من أنها ضحية أساسية لها ولملاحقها، إلا أنها خاضت بفضلها حرب البقاء والبروز والإبداع. أعالت أسرًا فُقد ذكورها اعتقالًا أو موتًا أو هروبًا.
لقد ثار السوريات والسوريون على الوضع القائم. وبالتأكيد، ليس جميعهم. وفي أعدل الإحصاءات، تكون الثورة شعبية إن آمن بها ثلاثون بالمائة من الناس، وهذا ما كان. هل نجحوا؟ فشلوا؟ لا يمكن في الحقبة التاريخية القصيرة أن نحسم بالنتائج. على الأقل هم نجحوا فيما سبق إيراده مع أن ذلك تحقق بأثمان حياتية باهظة وبتكاليف نفسية ولا مادية هائلة. لقد تسلّحت الثورة وانحرفت فيما بعد لتصير حروبًا وتجاذبات إقليمية ودولية. فضاءٌ مفتوح أتاح لكل الأطراف لأن تدلو بدلوها الملوّث أو العذب. صارت سوريا مسرحًا للموت الموظّف لتلك الجهة أو تلك. على الرغم من كل ما سبق، وما يمكن أن يُضاف من سلبيات ونتائج وخيمة، إلا أن الثورة تحققت وإن لم تكن قد حقّقت بعد. استرجاعها الى الفضاء السلمي هو تحدٍ رهيبٍ يكاد يكون مستحيلًا في ظل تضافر الجهد لكي ألا يعلو صوتٌ على “صوت المعركة”. وهو يحتاج أولًا وأخيرًا إلى استعادتها إلى القرار السوري المستقل.
في بداية الألفية الثانية، وفي حفل استقبال للسفارة الفرنسية بعيد الثورة الفرنسية التي قامت سنة 1789، تقدّم أحد كبار المسؤولين السوريين من السفير الذي كان من متقني اللغة العربية ومتحدثيها بطلاقة. وقد طلب مني المسؤول أن أترجم ما سيقوله للسفير. ولوهلة، كدت أن انقل له معلومة إتقان السفير للغة الضاد إلا أن الأخير نهرني بابتسامة صارمة، مؤكّدًا بأنني سأنجز بهذا العمل على أحسن وجه. في إثر ذلك التطمين غير الدبلوماسي، اتخذ المسؤول السوري وضعية الرامي منتصبًا وقال حرفيًا التالي: “قل لسعادة السفير إن ثورتنا في 8 آذار/ مارس سنة 1963 هي الابنة الشرعية للثورة الفرنسية”. حينذاك، وقبل أن أنبس ببنت شفه، قال لي السفير، وهو حيٌ يُرزق، أن أطيل في الترجمة؛ لأنه عليه أن يجد ما يليق بهذه المعلومة المخيفة والمفاجئة حقًا. فبدأت بالحديث عن السهرة وعن انتقاء الأطباق والموسيقا. بعد صبر جدير بمراقب التموين، احتج المسؤول السوري على إطالتي في الترجمة لعبارة قصيرة صارخًا بتهذيب: “كلها كلمتين”. نظرت إلى الاثنين راغبًا في الاختفاء تحت الأرض، ولكنني وجدت نفسي أقول له بأنني أحاول أن أترجم كلامه العميق والمؤثّر، وبأن اللغة الفرنسية عاجزة بعبارات قليلة عن أن تنقل مثل هذه الملاحظة، ما يدفعني إلى استخدام مفردات كثيرة للمساعدة. ابتسم ابن “الثورة” وانتشى. وأظنه ما زال مبتسمًا حتى يومنا هذا لإعجابه الذاتي بذكاء فكرته وبنباهته في هذا النسب. أما إجابة السفير بعد لأيٍ وانتظار، فقد كانت: “اعتقد بأن ثورتكم فريدة بالفعل، وما نسبها لثورتنا إلا رغبة لطيفة منك للتقرب من دولتنا وأنا أقدّر ذلك شديد التقدير”.
الثورة قامت، حقًا قامت، أما مآلاتها ووقعها ونتائجها وتشابكاتها وتأثيراتها كما تأثّراتها، فهي مرارات وابتسامات مختلطة تحتاج إلى أن يكون للحديث صلات وشجون