نظام الأسد يلعب «الورقة الكردية» ليكسب دويلته – عبدالوهاب بدرخان
لم تعد الورقة الكردية إلى الأضواء بالصدفة، بل قفزت إلى واجهة الأزمة السورية في التوقيت الذي أراده النظام، وللوظيفة التي حدّدها لها. لماذا اختار «حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» و «جبهة النصرة» أن يتواجها الآن؟ للإجابة ينبغي البحث عن «مرجعهما»، فالأرجح أنه واحد بوجهين، وأنه هو مَن رعى «تعايشهما» شهوراً من دون مشاكل كبيرة، ثم رأى أن الوقت حان لكي يطرد هذا الحزب تلك الجبهة من منطقته. صحيح أن «النصرة» صارت مشتبهاً بها وأن جيرتها غير مرغوب فيها بعد انكشاف وجهها «القاعدي» الذي لا يعتبر السوريون أنه يعنيهم في شيء، لكن الأصحّ أن إقدام الحزب الكردي على طردها من رأس العين شكّل له فرصة وذريعة لتدشين تجربة أولى ذات ملمح انفصالي وذات جذور ودوافع تاريخية معلنة ومعروفة في شمال سورية. ولا شك أن النظام يريد أن يوظّف هذه التجربة ويبني عليها في ما يخدم مخططه التقسيمي.
كانت المقدمات الصغيرة بدأت قبل بضعة أسابيع في مختلف أنحاء محافظة الحسكة، لكن الحزب الكردي الذي كانت قوات النظام أخلت له – لا لأي طرف كردي آخر – مواقعها الحدودية اغتنم لحظة البروز كمناوئ لـ «جبهة النصرة» (أي للإرهاب) لإطلاق جملة من الإجراءات والنيات التي تصبّ في مأسسة «الإدارة الذاتية»: مباشرة الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية من خلال «هيئة كردية عليا» و «مجلس الشعب في غرب كردستان» وهي التسمية الجديدة للمناطق الكردية السورية… قد لا يبدو ذلك مستغرباً في سياق الصراع السوري الداخلي، فالأكراد عانوا تهميشاً وحرماناً واضطهاداً في مناطقهم، وشكّلت لهم الثورة الفرصة التي انتظروها قرابة قرن من الزمن.
لكن المستغرب أن يكون هذا الحزب الذي يعتبر فرعاً لـ «حزب العمال الكردستاني» (زعيمه عبدالله اوجلان) هو مَن يقوم بهذا الدور، إذ أنه لا يعبّر عن أكراد سورية الذين يرتابون به ويعدّونه عموماً من ملحقات نظام الأسد، وحتى إذا تعاطف قسم منهم مع محاولته إدارة الوضع الراهن في مناطقهم إلا أنهم ينسّقون ما يتعلّق بمستقبلهم مع قيادة كردستان العراق في أربيل. وقد شجّعت هذه القيادة أكراد سورية أولاً على حماية أنفسهم بالطريقة التي يستطيعونها ولذلك تجنّبوا أي مواجهة مع النظام ولم يقطعوا معه، وتفادوا الانخراط في الثورة مع شيء من التعاطف المحدود معها، وثانياً على تطوير مناطقهم من دون التعجّل في طرح أي صيغ انفصالية. ويبدو أن قيادة أربيل تسعى إلى تعميم مفهومها هذا وتجربتها من خلال المؤتمر القومي الذي تنظمه قريباً ودعت إليه الأحزاب الكردية العراقية والإيرانية والسورية والتركية تحت شعار حل القضية الكردية «بشكل عادل» وتقديم الأكراد على أنهم «عامل استقرار وسلام للمنطقة وأنهم يعززون ديموقراطيتها».
كان واضحاً أن تحركات «حزب الاتحاد» أثارت المخاوف والحساسيات داخلياً وإقليمياً، ولم تتردد أنقرة في دعوة رئيس الحزب صالح مسلم لتقف على حقيقة مواقفه. لا شك أنها أرادت تحذيره من أي تهديد لأمن تركيا، لكن أحمد داود أوغلو أشار أيضاً إلى وجوب التثبّت من عدم تعاونه مع النظام وعدم سعيه إلى إقامة كيان عرقي بحكم الأمر الواقع ومن دون التشاور مع المكوّنات الأخرى للمجتمع. لكن كيف السبيل إلى التأكد من عكس ما هو مؤكد، فالأتراك يعرفون أن «حزب الاتحاد» هذا لا يمكن أن يكون له وجود أو دور لولا أنه يحظى بقبول من النظام، ما يعني تلقائياً أنه سينفّذ بالضرورة ما يأمره به اللواءان المكلّفان إدارة الملف الكردي. فالنظام يحاول جرّ الأكراد إلى بناء استخلاص موحّد من حال التفكك التي تشهدها سورية، وبالتالي فهو يتطلّع إلى إغرائهم بمعادلة «لكم الشمال ولنا الساحل» لكن يهمّه أن يقدموا على الخطوة الأولى، بل يهمّه أكثر أن تتم هذه الخطوة قبل اقتراب المؤتمر الدولي واحتمالات التفاوض بحثاً عن حل سياسي لا يريده إلا وفقاً لما خطّطه.
يتعامل النظام مع الأكراد على أنهم ورقة يتلاعب بها، ومن شأنهم ألا يمكّنوه من غاياته، حتى لو تقاربت مصالحهما. في المقابل كانت للمعارضة تجربة فاشلة في استمالة الأكراد، لأن «المجلس الوطني» و «الائتلاف» خشيا الموافقة على أي صيغة لـ «حق تقرير المصير» قد تُفهم كموافقة أو اعتراف بشأن حقهم في الانفصال. والواقع أن الطرفين يقرّان بوجود تقارب بينهما وبأن مخاوفهما وهواجسهما واقعية ومفهومة، لكن عدم صلابة أي من الكيانين المعارضين لم تساعدهما على الانخراط في حوار عميق وصريح مع الأكراد على قاعدة الاعتراف بحقوقهم بمعزل عن مسار الأحداث، ثم أن تطورات الصراع السوري وتقلباته غيّرت تكتيكات الأكراد فصاروا أكثر وضوحاً في حصر طموحهم بـ «الحكم الذاتي»، تحديداً لأن طموح «الانفصال» لا يشكل خياراً عملياً في هذه المرحلة. مع ذلك، إذا استمرّت الصيغة الحالية لائتلاف المعارضة على الانطباع الجدّي الذي تكوّن عنها حتى الآن، فلديها مصلحة عاجلة في التفاهم والاتفاق مع الأكراد باعتبارهم كبرى الأقليات ويمكنهم أن يلعبوا دوراً حيوياً في الحفاظ على وحدة سورية، وعلى الاستقرار الإقليمي استطراداً.
سواء استطاع النظام دفع الأكراد إلى مخططه أم لا فهو يواصل سعيه إلى رسم خريطة «الدويلة» المذهبية التي يريد سلخها عن الكيان السوري. ومن هذه الزاوية يُنظر إلى معركة حمص على أنها مرتبطة بمشروع التفكيك والتقسيم، حتى أن البعض يفسّر عدم وصول أسلحة نوعية إلى المدافعين عن المدينة ذاهباً إلى حد اتهام القوى الخارجية المعنية بالأزمة بأنها باتت تعترف ضمناً بأن التقسيم حاصل، ولذلك فهي تتيح للنظام حسم مصير حمص. يختلف الأمر بالنسبة إلى دمشق التي يتمترس فيها النظام أولاً ليحافظ على «شرعية» يدّعيها ولا تزال روسيا تحميها، وثانياً ليخوض منها المساومة على خريطة دويلته التي يريدها ملاذاً للعلويين والشيعة والمسيحيين. لكن القوى الخارجية لا تتصوّر دمشق في إطار هذه الدويلة، بل إنها على المستوى الرسمي شدّدت للمرة الأولى، في بيان قمة الدول الثماني (حزيران/ يونيو الماضي في إرلندا)، على «سورية الموحّدة»، وبالتالي فهي لم تبلغ بعد حدّ البحث في التقسيم، وإن كانت تعي أن النظام يستدرجها إليه وأن إيران التي تدعم مخططه استدعت ألوف المقاتلين لمؤازرة قواته في هذه المرحلة الحاسمة. أما السيناريوات المتصوّرة لدى الأمم المتحدة – في حال الشروع في حل سياسي – فلا تلحظ سوى إرسال قوات لحفظ السلام بغية حماية الأقليات في مناطقها، في حين أن أي مشروع للتقسيم سيتطلّب أكثر من قوات لحفظ السلام.
في اللحظة الراهنة يتهيّأ كل طرف لمتابعة حربه فيما يجري الإعداد بتمهّل للمؤتمر الدولي وللمفاوضات المزمعة. لكن الفارق بين وفدي المعارضة والنظام أن الأول سيبحث، متى دخل التفاوض، في صيغة «نقل السلطة» كحدٍّ أدنى، أما الآخر فلديه مهمة تشي ملامحها المعروفة بأنها صورية تهدف إلى كسب الوقت، وفي خلفية المشهد سيواصل النظام وحلفاؤه استكمال الدفع بمشروع التقسيم لوضع القوى الدولية أمام الأمر الواقع. لذلك تفضّل المعارضة أن لا يُعقد أي مؤتمر أو تفاوض إلا إذا كان أفق الحل محدداً، وبتوافق أميركي – روسي واضح ومعلن.