هذه ليست حربا باردة بل حرب نظام ضد شعبه – د. بشير موسى نافع
تعارض موسكو تغيير النظام في دمشق، وتعبر عن معارضتها بطرق عدة. هذه حقيقة باتت معروفة للجميع. يقول الروس أن موقفهم لم تحدده علاقة خاصة بالنظام السوري، ولا حتى بمصالح ما في سورية يؤمنها النظام
الموقف الروسي، يكرر مسؤولون كبار في إدارة بوتين، يعبر عن التزام بمبادىء القانون الدولي: أن دولة في العالم، أو حتى الأمم المتحدة، لا يمكنها أن تتدخل في شؤون دولة أخرى ذات سيادة بهدف تغيير نظام الحكم. وما تراه موسكو في سورية ليس أكثر من محاولة غربية لإطاحة نظام الأسد الابن. ما حدث في ليبيا، تؤكد موسكو، لا يجب أن يتكرر، أو على الأقل لا يجب أن تسمح به الدولة الروسية، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. ولكن الروس، كما هو معروف أيضاً، يذهبون أكثر من ذلك، ليس فقط بتوفير إمدادات من السلاح والذخائر للحكومة السورية، تدفع أثمانها من مقدرات الشعب السوري، وتستخدم على نطاق بشع وهمجي ودموي لقتل أنباء الشعب السوري، ولكن أيضاً بإرسال خبراء روس في مجالات دفاعية وأمنية متنوعة، بما في ذلك مكافحة الإرهاب، لتدريب قوات النظام السوري
المشكلة في الموقف الروسي ليست فقط في منع صدور قرار من مجلس الأمن الدولي لإدانة سياسة القمع التي يواجه بها النظام السوري الثورة الشعبية، أو أن هذه ليست المشكلة الأكبر. المشكلة أن موقف موسكو يقدم دعماً معنوياً حيوياً للنظام، يكسر العزلة الدولية التي توشك أن تحيط به، وتقوض شرعية وجوده في مجتمع الدول. روسيا ليست أية دولة. هذه إحدى القوى الكبرى في العالم، وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، ودولة تتمتع بإمكانيات عسكرية هائلة واقتصادية ملموسة. وفوق أن سياستها بحد ذاتها تصنع واقعاً من الانقسام الدولي إزاء الأزمة السورية، فإنها توفر غطاء لدول أخرى، مثل إيران، تلعب أدواراً متفاوتة في مساندة النظام السوري وحمايته من السقوط. وهذا أيضاً ليس فيه من جديد
لماذا تتبنى روسيا هذا الموقف؟ هناك بالطبع عدد من الإجابات. المهم أن ما يسرده المسؤولون الروس عادة من مسوغات لا يجب أن يؤخذ على محمل الجد. فلا روسيا، ولا الولايات المتحدة، ولا أي من القوى الكبرى الأخرى تهتم بالقانون الدولي (الذي هو أيضاً، كما أية منظومة قانونية، قابل لتفسيرات مختلفة)، إلا بما يمنحه من خدمة لمصالحها. وعندما يقول الروس أنهم غير مشغولين بمصير النظام السوري، وأن بقاء أو تغيير النظام يجب أن يترك للسوريين، فهم بالتأكيد لا يقولون الحقيقة
الواضح أن الجهد الروسي، حتى الآن على الأقل، منصب على حماية النظام في دمشق، وتعزيز المقدرات السياسية والعسكرية والديلوماسية التي تؤهله للبقاء. التفسير الأقرب للمنطق أن روسيا تستخدم الأزمة السورية لتحقيق جملة أهداف على المستوى الدولي، سيما على صعيد علاقتها بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو). أحد هذه الأهداف يتعلق بمحاولة روسيا، على نحو ما، استعادة بعض ما فقده دورها الدولي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية؛ بمعنى أن تتحول روسيا مرة أخرى إلى شريك فعلي في قرار العالم. أو قد تستهدف مقايضة الموقف من سورية بالدعم والحماية الغربية لجورجيا، التي تقف حجر عثرة في طريق إعادة فرض السيطرة الروسية التاريخية على ما يعرف في الاستراتيجية الروسية بالخارج القريب. الملف الثالث محل الخلاف مع الناتو هو بالطبع حائط الصورايخ المضادة للصواريخ، الذي تعمل الولايات المتحدة بصورة حثيثة على بنائه في الجوار الأوروبي لروسيا، والذي يشكل تهديداً لميزان القوى المستقر نسبياً في المجال الأوروبي منذ مطلع التسعينات. وقد يكون الهدف الروسي من سورية فتح كل هذه الملفات معاً. وهذا، على الأقل لقطاع واسع من المراقبين، ليس فيه من جديد
الجديد هو الأثر الذي تتركه المقاربة الروسية على الجدل العربي العربي من الأزمة السورية. ففي صدى للموقف الروسي، أخذ عدد من المثقفين وأهل الرأي، بل والمناضلين، العرب القوميين، الذين لم يسعدهم رؤية اندلاع ثورة شعبية في سورية، أو الذين أحرجتهم الثورة إلى الحد الذي وجدوا فيه من العسير تحديد موقف منها، يقرأ الحدث السوري، بلغة من الابتهاج والسعادة، وكأنه حلقة جديدة من حلقات الحرب الباردة. هذه بالتأكيد ليست حرباً باردة. ما يحدث في سورية لا يمكن وصفه إلا بالحرب الدموية، الحرب التي بلغت مستوى من الوحشية لم يعهده العرب حتى في أشد لحظات الاستبداد السياسي بشاعة، حرب يقوم بها نظام الحكم، عن سابق تصميم وتصور، عن تعود والتزام بتقاليد راسخة، ضد شعبه. قد يكون من المفرح أن نشهد في جيل واحد نهاية نظام القطبين، ونهاية التفرد الأمريكي، وبروز نظام عالمي متعدد القطبية. ولكن الواضح في هذه ‘الحرب الباردة’ أن طرفاً، هما روسيا وإيران بصورة خاصة، يمد النظام بما يحتاجه، بينما الطرف الآخر، مثل تركيا والسعودية وقطر وأمريكا، لا يقوم بأي دور ملموس. السؤال الآن، ماذا لو أن الطرف الثاني أخذ في تقديم الدعم للقوى الشعبية والجنود المنشقين، هل سيكون هناك ما هو مفرح في هذه الحرب؟ مهما كان الأمر، فربما يمكن فهم الدوافع التي تجعل بعض الأصوات العربية المحرجة تتلمس في الموقف الروسي مظهراً لانعطافة جديدة في الموقف الدولي. ولكن سورية ليست الحالة الأفضل للتعبير عن هذه الانعطافة، والموقف الروسي من سورية لا يجب أن يكون محل إعجاب، ولا مبرراً لغض النظر عن ما هو أخلاقي في جوهره من أجل التذرع بما يبدو وكأنه سياسي دولي في مظهره. ولأن هذه أزمة طالت قليلاً، فربما من المفيد دائماً التذكير بما بدأت به، بمسارها المؤلم، وبثوابتها الأصيلة
ما وقع في سورية لم يكن انقلاباً متعثراً خططت له أجهزة استخبارات غربية، من طراز انقلابات الخمسينات والستينات في العالم العربي وأمريكا اللاتينية وإفريقيا. ولا هو غزو من الخارج، يقوده معارضون تدعمهم واشنطن أو حلفاء لها، من طراز غزو خليج الخنازير، أو عراق 2003. ولو أن الحفنة السورية الشجاعة التي أقدمت على الخطوة الأولى في دمشق القديمة، يوم 15 مارس/ آذار من العام الماضي، استشارت أياً من العواصم الغربية قبل أن تقدم على خطوتها الاستثنائية تلك، ما كانت نُصحت بأن تقوم بما قامت به. ما حرك السوريين كان تراكم لا يكاد يوجد نظير له من ممارسات الإبادة السياسية التي انتهجها النظام ضد شعبه، ممارسات تماهت في العقد الأخير مع احتكار متفاقم للثروة والمقدرات الاقتصادية في البلاد من قبل الفئة الحاكمة والحفنة الملتفة حولها. منذ آذار/مارس وحتى تموز/يوليو، انطلق السوريون إلى شوارع مدنهم وبلداتهم في صورة سلمية مطلقة، لم يحمل أحد منهم سلاحاً ولا دعا إلى حمل السلاح. بل على العكس تماماً، كان السوريون يكررون في مسيراتهم وتجمعاتهم تصميمهم على سلمية الثورة والحراك الجماهيري. في المقابل، أطلق النظام النار على المحتجين منذ الأسبوع الأول؛ وقبل نهاية الأسبوع الثاني، لم يعد النظام يكتفي بعنف الأجهزة الأمنية، وقام بنشر قوات الجيش في الشوارع. في يوليو/ تموز، بعد أربعة شهور متتالية من القتل، تنادت مجموعات صغيرة من الضباط والجنود المنشقين على جيش النظام لتأسيس ما أسمته بالجيش السوري الحر، وأخذ بعض الأهالي في إظهار السلاح في شوارع المدن والقرى، في تحد لبشاعة العنف الذي صبته قوات النظام على رؤوسهم. ولكن هذا ‘الجيش،’ لم يكن باستطاعته أن يتحول إلى ظاهرة مسلحة إلا في تشرين ثاني/نوفمبر وكانون أول/ديسمبر، بعد أن اتسع نطاق الانشقاقات ليغطي كافة أنحاء البلاد، وتوفر بالتالي بعض السلاح الذي أهل المجموعات المنشقة باسم الجيش الحر، ومن انحاز إليها من الأهالي، لمحاولة الوقوف في المدن والبلدات الثائرة بهدف حماية تجمعات المدنيين وتظاهراتهم
خلال الشهور الأولى، لم يكن هناك من موقف دولي، غربي أو غير غربي، وعربي أو غير عربي، مؤيد للثورة السورية بصورة ملموسة. حتى منتصف الصيف، لم تصدر سوى عبارات تعاطف مع الحركة الشعبية، وعبارات احتجاج تقليدية على سلوك النظام وقواته، وعلى أعداد القتلى المتزايدة من الأهالي. في أكثر من تصريح، كررت وزيرة الخارجية الأمريكية، حتى بعد فرض أول حزمة من العقوبات، أن هدف واشنطن تغيير سلوك النظام وليس تغيير النظام في سورية. السعودية وقطر، اللتان توصفان الآن بقيادة ‘التآمر العربي’ ضد النظام في دمشق، انصبت سياستهما أيضاً على التوسل للنظام بأن يوقف آلة القتل، وأن يستجيب للمطالب الشعبية ويفتح حواراً جاداً مع المعارضة. لم يتوقف المبعوثون القطريون عن التردد على دمشق، وأوفت السعودية بتعهد عون مالي سابق للنظام من عدة مئات من ملايين الدولارات. وكذلك كان الموقف التركي، ‘المتآمر الإقليمي الكبير.’ بدأت توسلات الأتراك بتنفيذ برنامج إصلاحي ذي معنى في لقاء الأسد وأردوغان قبل اندلاع الثورة السورية، وبعد سقوط نظامي بن علي ومبارك. وأوفد إلى دمشق المبعوث التركي وراء الآخر، طوال شهور الثورة الخمسة الأولى، وصولاً إلى مباحثات وزير الخارجية التركي، أحمد داوود أوغلو، في منتصف آب/أغسطس، مع الرئيس الأسد، التي استمرت ست ساعات متواصلة. وحتى ذلك اللقاء، كانت السياسة التركية من الأزمة في سورية، كما هي سياسة الأغلبية العظمى من الدول العربية، إصلاحات عميقة في بنية النظام وليس تغيير النظام
بيد أن سياسات النظام وتعامله مع الحركة الشعبية استمرت على ما هي عليه، بل أصبحت أكثر جرأة في وحشيتها واستهتارها بحياة السوريين وحرماتهم. كلما اتسع نطاق الحركة الشعبية، كلما ازدادت قناعة النظام بضرورة تصعيد أدوات العنف لإخضاع السوريين من جديد. ‘ليس سوى الجيش من دواء لداء الديمقراطية،’ قال ملوك الإرتداد الأوروبي في منتصف القرن التاسع عشر، وهم يأمرون بدك شوارع مدنهم بالمدفعية. وهنا، منذ آب/أغسطس، بدأت المواقف العربية وغير العربية في التغيير، ليس بصورة حادة، على أية حال، ولكن بخطوات تدرجت نحو الإعلان عن فقدان النظام لشرعيته. ثمة أطراف عديدة أرادت وتريد الشر بسورية، ولكن أحداً لم يتآمر على سورية ويعمل على إهدار دورها ومقدراتها كما تآمر النظام ويعمل. وقد تكون سورية أصبحت بالفعل ورقة مساومة دولية بين روسيا والكتلة الغربية. ولكن هذا شيء، والتذرع بأوهام حرب باردة جديدة، للتغطية على جرائم النظام ضد شعبه، شيء آخر مختلف تماماً
كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
القدس العربي – 2012-03-28
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\28qpt699.htm&arc=data\201233-28\28qpt699.htm