هل في سوريا تُخاض الحرب الأهلية الإسبانية لجيلنا؟ – ديفيد ووكر
ترجمة: ياسر الزيات
في الأيام القليلة الماضية، كان الإعلام، ومعه دوائر التدوين والمغردين، يغلي بغضب مبرّر تماماً تجاه الاستهداف العشوائي للمدنيين بالغاز في ضواحي دمشق. صور مرعبة لأطفال موتى ولآخرين على وشك الموت كانت آخر مقت وصل إلينا من ذاك الصراع البشع (بشع حتى حسب المعايير المعتادة للحروب الأهلية). ردود الفعل على ذاك الانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان وللقانون الدولي، ثم دعوات التدخل التي تلت، طرحا مشكلة أكثر حرجاً. أساساً كان مجلس الأمن منقسماً بشكل مؤثر بنفس القدر الذي انقسمت فيه القوى الكبرى في الثلاثينات حول الحرب الأهلية الإسبانية لخلافات أيديولوجية. هذا يعني أنه، بغض النظر عن تهديد التحرك الأميركي، الأداة الأساسية للتدخل والحلّ معطلة: عاجزة فعلياً عن أي تحرك بخصوص الصراع الجاري. بدلاً من ذلك، المجتمع الدولي انتهى إلى عطالة رهيبة، تشبه عطالة أسلافه قبل ثمانين عاماً.
يبدو محتملاً أكثر وأكثر أن تهاجم الولايات المتحدة سوريا، جواً أو عبر صواريخ، في مرحلة ما من المستقبل القريب جداً. لكن قلما تكفي هذه الأدوات لتعزل نظاماً تسلطياً. ثمة مسألة رئيسية يتعين حلها. دون أن يعتبر الموضوع تسجيل نقاط ضد أو مع، ينبغي القول إن التدخل في الصراع السوري والدعوة إليه مليئان بالمصاعب. خذ على سبيل المثال شنّ تدخل تحت مبدأ «مسؤولية الحماية». «مسؤولية الحماية» تتعامل مع ظروف محددة جداً وتستهدف منع أو تعطيل إبادة أو أفعال إبادة. هذا صعب في حالتنا لسببين. أولاً، عدا عن أن ذاك الهجوم اللاشرعي واللاأخلاقي فظاعة مروّعة سيرتكبها مجرمو حرب واضح أنهم لا يهتمون لحياة المواطنين السوريين غير المقاتلين، ليس هناك حتى الآن أي دليل ثابت لإبادة ممنهجة تشبه راوندا أو الهولوكوست. وثانياً، إذا كانت الحاجة لتدخل باسم «مسؤولية الحماية» مقبولة، يجب تطبيق نفس المعايير على كلا الجانبين: رغم وجود تفاوت مهم بين الطرفين فيما يتعلق بالأهداف والأفعال والمحاسبة. هذا يلحّ على السؤال: ’لم تشنّون هجوماً باسم «مسؤولية الحماية» بخصوص فظاعة دون أخرى؟‘. لا يمكن تطبيق القانون الدولي ومبادئ التدخل بناءً على تعاطف المجتمع الدولي مع طرف أو آخر.
ماذا عن «ائتلاف الإرادة» البسيط الذي شكلته دول معارضة لنظام الأسد، الوحشي بلا أدنى شك؟ مع أن من المغري تخيل الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وقوى أخرى تمتطي جيادها وتحول قصر الأسد الرئاسي إلى ساحة دبابات تحترق ويتصاعد دخانها، ثمة اعتبارات أخرى. واضح أن المعارضة السورية، ومثلها حراكات معارضة أخرى ظهرت مع الربيع العربي، يوحدها بشكلب أساسي كره الحكم التسلطي الذي تعارضه، أكثر مما توحدها أية رؤية سياسية مشتركة. هذا يجعل سياسات التدخل صعبة على أية قوى خارجية. حتى لو ظلت الواقعية السياسية لـ«عدو عدوي صديقي» ذات قيمة ما، حين يكون عدو عدوك جماعة إسلام سياسي تنكر وجودك وتعتبرك تجسيداً للشر، فربما ثمة إشكال في ذاك المنطق. بعد كل التجارب الجمعية خلال العقد الأخير، ولا سيما في العراق وأفغانستان، ليس صعباً تخيّل ضعف الشهية لذاك النوع من التدخل الغربي أحاديّ الجانب. مع أنه يمكن التلاعب بالرقم، إلى أن 9% فقط من الأميركيين يدعمون التدخل في سوريا، وشخصياً لا يمكنني تخيل أية ظروف في السنوات القليلة القادمة تجعل سكان الديمقراطيات الغربية يقبلون الانخراط في حرب بلا مدة محددة ثم تعقبها فترة غامضة لبناء الدولة، عن طيب خاطر، اللهم إلا للضرورة القصوى.
لذا، المسألة هنا ليست ما إذا كان هذا الهجوم جريمة حرب أو فعل إبادة أم أنه يستحق شنّ مبادرة تدخّل خارجي بخصوصه. المشكلة الأساسية هنا هي، كما في الحالة الإسبانية، أنه لا يمكن التوافق في المجتمع الدولي على موقف موحّد. كلا السيناريوهين المناقشين أعلاه يرتكز على تعريف مشترك لسيادة الدولة لتنفيذه. الانقسام بين خمس دول أعضاء في مجلس الأمن بخصوص مبدأ سيادة الدولة، والذي ظهر في بداية هذا الصراع، يبقى بلا حل. إصرار الصين وروسيا على استعمال حصانة مبدأ السيادة وضع عائقاً لا يمكن تخطيه للتغلب على المنافسات الجيوسياسية، وكله على حساب الشعب السوري. الانقسام المرسخ بخصوص الدول الخمسة دائمة العضوية (دول الفيتو) يلمح إلى أن التحرك من قبل طرف أو آخر سيقابله رد يعيقه ويساويه في النشاط. هذا يؤجل أبسط التحركات. حتى جلب فريق التفتيش الخاص بالأمم المتحدة إلى دمشق بدا جسراً لوجستياً غاية في البعد.
كما في ثلاثينات القرن الماضي، هذا يعني وجود نتيجتين واضحتين. الأولى هي أن سلبية المجتمع الدولي أدى إلى كفاح غير متساوٍ بين النظام والمعارضة، مع عواقب واضحة لذلك. الثانية، وهي ربما مسألة أكثر خطورة، هي أنه بدل الفراغ الذي صنعه غياب لاعبين كبار، فإن منظمات ما دون الدولة أو وكلاء طرف ثالث سينفذون إلى الصراع. هذا يحتمل تشكيل الزعماء في هذا الصراع بطرق ربما تنطوي على نكسة للاعبين الإقليميين والدوليين بعد الحرب.
لا داعي للتذكير أن هناك اختلافات واضحة بين الحرب الأهلية في إسبانيا وأختها في سوريا، لكن بالمقابل ثمة بعض التشابهات الهامة التي لا تشي بنتيجة سعيدة سواء للسوريين العاديين أو للمجتمع الدولي. كما إسبانيا، تنقص الإرادة من أجل أي فعل حاسم من المجتمع الدولي. هذه متصلة بوضوح بالانقسام بين الدول الخمسة دائمة العضوية. ثمة أيضاً سؤال عن مدى مرغوبية النظام الذي سيحل محل القديم في حال هُزم الأسد: في حالة إسبانيا، الخيارات كانت إما نظام فاشي أو ستاليني، أما في حالة سوريا فغالباً البديل إسلامي. بعيداً عن الزعماء الواضحين، خيارات كهذه لم تفرح بقية العالم في الثلاثينات، ولن تفرحه الآن. إضافة لذلك، اعتماداً على ما سينتج، السعي الضروري وراء مجرمي الحرب من الطرفين يمكن أن يكون تمريناً شائكاً على السيادة. مرة أخرى، هذه ستفيد فقط في مفاقمة الانقسام الدولي الحالي. مع أن سوريا ربما ليست المسمار ما قبل الأخير في نعش النظام الدولي الحالي، كما كانت إسبانيا، فإنها حتماً تسلط الضوء على بعض الاختلافات الهامة في مقاربته. مسألة تعريف سيادة الدولة يمكنها حتماً إعاقة المجتمع الدولي بشكل كامل عن البحث عن حل من خلال أدوات كمجلس الأمن لمسائل كسوريا. مأساة هذا الفشل هي أن علينا مرة أخرى أن نشاهد هذه الدراما الدموية تأخذ وقتها وتُبارَك عروضها، بينما العالم يتفرج.