يا رايحين عَ حلب – أمجد ناصر
شاعر وكاتب وصحفي من الأردن. مواليد 1955. له عدة أعمال شعرية، وكتب في الرحلة واليوميات والرواية، ترجمت نصوص ومؤلفات له إلى عدة لغات. يعد من أبرز أصوات قصيدة الحداثة العربية.
أيام الثورة الفلسطينية المسلحة كنا نغني أيضاً، وكانت الأغاني من حواضر البيت الشامي الكبير، فلا شيء يمسك بالتلابيب مثل غناء الجماعة الذي هو أيضاً نوع من المقاومة، حتى وإن لم يقل هذه الكلمة المستحدثة في قاموسنا، فأسلافنا كانوا يسمّونها جهاداً، ولا يعنون بالضرورة معناها الديني، لأنَّ كلمة الجهاد سابقةٌ على الدين الذي أخذها وتوَّجها على رأس العمل، إذ يبلغ القلوب والأرواح. أيام الثورة الفلسطينية المسلحة، ثورة منظمة التحرير الفلسطينية، وليست ثورة القسام، كنّا نجلس مجموعاتٍ ونغني. وكانت الأغاني من حواضر البيت الشامي الكبير، وليست فقط من الغناء « البديل ». يومها سمعت رفيقاً يغني الروزنا، وكان تحت عنب الأغنية سلاح وليس تفاحاً، ولم يقل رفيقنا لِمَ شذَّ عنا، وخبأ السلاح تحت العنب؟ فكَّرت أنَّ الأمر يتعلق بالثورة السورية الكبرى. لا بدَّ أن هؤلاء الذين كانوا يغنون، على نحو ما فعل رفيقنا الشامي، من الثوار السوريين، أو من الفلاحين المناصرين الذين كانوا يهرِّبون لهم السلاح، في معركتهم ضد المستعمر الفرنسي، تحت شحنات العنب الذاهبة إلى الشهباء.
لا تحتاج حلب إلى الروزنا، لتحضر في الذهن. فهي موجودة، بلا توقف، على شاشاتٍ يتساقط منها الدمار والدم والجثث إلى غرف جلوس العرب والعجم. لكن، قاتل الله الألفة. إنها أخطر من القتل. الألفة وليس الفتنة. فلا شيء يحوّل الدم إلى ماء مثل تكرار سفْكِه. اسفكْ دماً بقدر ما تستطيع، تنجُ بفعلتك و »يحتار عدوك فيك ». الدم القليل جريمة، لكن الدم الكثير حرب. وفي الحروب، لا يتراشقون بالورود. المجرمون يُحاكَمون، ويساقون إلى السجون أو المشانق، وربما إلى السيوف في بعض البلدان، غير أن قادة الحرب هؤلاء الذين يقتلون أكثر ينالون الأوسمة. لقد أرسيت هذه القاعدة في سورية منذ مجزرة الحولة، وربما منذ أيام درعا، وصولاً إلى مجازر حلب اليومية الآن. جُرِّبت هذه الوصفة و »زبطت ». فعندما لا يصدر قرار واحد من أيِّ هيئةٍ دوليةٍ معنيةٍ بجرائم الحرب، ولا يوضع اسمٌ واحدٌ على هذه اللوائح التي تتحكَّم فيها موازين القوى وفساد السياسات، لا يرعوي القتلة ولا يُحْجِمون. ضع الآن اسم قائد سياسي أو عسكري سوري، روسي، إيراني، على قوائم مجرمي الحرب، انشر صوره على الملأ، وراقب الميدان. لن تتوقف الحرب، وكوارثها البشرية، لكنَّها ستكون أقلّ « تنزّهاً » مما هي عليه الآن، وأكثر « انضباطاً ». لكن، من يسأل عن الدم السوري؟ حقاً من يسأل؟ سواء من العرب أو من الغرب. أشكُّ أنَّ هذا الدم الذي يسفك في سورية دم، وهذه الجراح الثخينة جراح، فلو كانا كذلك لاستدعيا مضمدين على الأقل. ألا من مضمدين ومسعفين؟ ألا من قطرة خجل، ذرة ضمير، عند من يديرون لعبة السياسة الدولية، غير مبالين بجرائمها على أرض البشر؟ ألم تصل استغاثات الضحايا، بل وجثثهم، إلى أقاصي الأرض؟ بلى فعلت. ولكن، ما من مجيب. لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً. ولكن، لا حياةَ لمن تنادي، ولو نارٌ نفختَ بها أضأتْ، ولكن أنت تنفخُ في رمادِ، على ما قال الشاعر العربي القديم. إنها صرخة الأموات في عالم أكثر موتاً منهم، فمن سيسمعها؟ على أي أذن حيَّة ستقع؟
قصارى ما يفعله « حلفاء » الشعب السوري و »أصدقاؤه » إصدار بيانات الشجب، وفتح بعض الشاشات (التي صارت مخصَّصة للأخبار السورية باعتبارها « مادة متخصِّصة »، مثل دروس الفيزياء والكيمياء على الشاشات التعليمية) لجمهور يتناقص باستمرار. لقد طالت الحرب. وتعبت الأعصاب. وصارت صورة السوري قتيلاً، أو جريجاً، أو هائماً على وجهه، أو طافياً على شاطىء أوروبي، لا تثير ما يفترض أن تثيره: الغضب. وليس الشفقة. الغضب، وليس التعاطف. تحتاج صور البشر الذين كانوا يشبهوننا قبل أن تسقط عليهم البراميل من السماء، إلى قليل من الغضب. فإن لم يعد يوجد عندنا، وعند غيرنا، ما يكفينا منه، فلا أقل من الخجل. علينا أن نخجل، اليوم، من هذه الصور التي عندما يراها أحفادُنا سيقولون لنا: هل عشتم حقاً في هذا الزمن الضبع، ولم تفعلوا شيئاً؟