يوميّات شاميّات – زياد ماجد
تحمل بعض صفحات الفايسبوك السوري يوميّات يسجّل فيها « مواطنون » ملاحظات ومفارقات يقفون عليها داخل منازلهم أو على الحواجز أو قرب أفران الخبز أو في أمكنة العمل أو في الشوارع حيث يتجوّلون. وتُتيح كتاباتهم ونشرها الذي يصل في لحظة الكتابة نفسها الى صديقاتهم وأصدقائهم « نقلاً مباشراً » أو « بثّاً مباشراً » لأحداث ولحالات يبدو الفارق الزمني بين لحظة حصولها ولحظة بثّها للمتلقّي معدوماً (حتى ولو قُرئ ما كتبوا بعد ساعات من نشره). وفي هذا ما يجعلها شديدة التأثير لقرب المسافة بين انفعالات كتّابها وانفعالات قرّائهم. وليس تحيّزاً القول إن أبرز هذه الكتابات إنما تأتي من « مواطنات » يؤرّخن لجوانب من حياة سوريا في ملحمتها ومأساتها الراهنة ويروون ببلاغة، يُضاعف من عمقها السياسي والانساني كمّ العفوية والسخرية فيها، تفاصيل تبدو سوريالية أو عادية، وفي الحالتين هي مشاهد متناثرة لا يمكن فهم الوضع السوري من دون المرور عليها.
فأن تفتح الفايسبوك مثلاً لتجد أن رزان تستنكر من الغوطة كل كلام عن أكل القطط (وهي المحبّة للقطط « الحيّة ») ففي الأمر ما يستبدل قسوة مخيفة بسخرية مرّة. فالمجاعة الزاحفة على الغوطة المحاصرة بعد المعضمية ومخيّم اليرموك وأحياء حمص القديمة تهدّد – إن نفد كل مخزون من الحبوب والطحين والخضار وغيرها من المآكل وإن استُهلكت المواشي المتقلّصة أعدادها منذ عام – بالبحث عمّا تبقّى من احتمالات مأكل، وهي احتمالات تردّد أمرها في اليرموك في الأسابيع الأخيرة… وأن تقرأ سميرة في الغوطة أيضاً تتحدّث عن يوم لم يتوقّف فيه تحليق الطيران وترقّب الناس لانقضاضه أو لسماع أصوات انفجارات تلي اقترابه من بيوتهم وساحاتهم، أو أن تقرأها وهي تشرح معنى انقطاع الوقود عن مولّدات الكهرباء بعد تحوّل السيارات الى قطع حديد مركونة على جوانب الطرقات فتتذكّر أن المستشفيات والمستوصفات العاملة ستتوقّف إن انقطعت مولّداتها، فالمقاربة تختصر أشدّ مآسي منطقة يحاول نظام همجي خنقها وإذلالها أو القضاء المبرم على أهلها .
وثمة نوع آخر من الكتابات، تنبري له كوليت من داخل دمشق. فمِن تجوالها في العاصمة تُبرز أحياناً اللامعقول في اليوميات السورية إن في التمييز بين أصوات القذائف والانفجارات أو في التعامل مع « الخطّ العسكري » لتفادي عجقات السير، أو في تغطية أخبار الأسواق وروّادها وعلاقتهم بأسعارها أو في الحكي عن التفتيش الأمني المستجدّ على أمكنة يرتادها الناس فيستعيد بعضهم عند خروجه أسلحة فرديّة سلّمها للسيدة الواقفة على المدخل! ولم يهُن على كوليت استعادة سكّين متواضع كانت قد سلّمته بدورها عند التفتيش بعد أن رأت « أناقة » مسدّس من سبقها، فنادت مطالبة باستعادة الآر بي جي خاصتها اللائق وحده بمكانتها!
وهناك ريم التي تعاني من انقطاع الكهرباء الدائم وزيارة فأرة لغرفة نومها، والتي تحاول قراءة شخصيات ضاربي قذائف الهاون من خلال رصد أدائهم وإيقاعات مدافعهم والدقائق الفاصلة بين انطلاقاتها المستمرة. ولريم، كما لكثرة من السوريّين، فجيعة تمثّلت بمقتل أخيها الذي تتردّد مناجاته على صفحتها ويتكرّر تذكّر قصصه. فتبدو بوستاتها سيرة ذاتية لسوريّة في سنوات الثورة فيها من الخاص الكثير ومن العام الذي فرضه القتل الكثير أيضاً.
ولا يكتمل رصد بعض معالم الحياة الدمشقية من دون متابعة ما تكتبه رولا التي رحل عن العاصمة معظم أصحابها وأهلها، وبقيت وحيدة تعاند المغادرة وتعيش لتشهد تحوّلات المدينة واختناقها بالحواجز ولتسمع بين جولة قصف وأختها مشادات جيرانٍ وأغنية « للصبر حدود » لأم كلثوم. ورولا التي تزور بيروت خطفاً تحمل في كل مرة أحاديث الطريق ودلالات التقيّة بين الركّاب، وتستسلم بعد رجوعها « لقتل الوقت » بما تيسّر من قراءة وعمل ثم بتجربة أساليب طبخ يأكل منها خالد ومن وجد له سبيلاً الى لقاء قبل أو بعد إفراغ راجمات الصواريخ حمولاتها على أحياء أو ضواح مجاورة.
يبقى أنّ نسرين المختصّة بالرصد اللغوي وبدلالات المصطلحات والمفردات (بين اختصاصات أُخرى عديدة) تقدّم كل فترة باقة من الشعارات وخلاصة للمقولات المرفوعة على جدران أو على ألسن طلاب. ولا شيء يوازي مقولتي « صغيرة يا كبير » و »عادوكَ ولم يعرفوا من أبوك » اللتين نقلتهما مؤخّراً في التعبير المكثّف عن معنى « سوريا الأسد » وعن صغر البلاد وحريقها أمام كبر الرئيس وسلطانه أو بالأحرى عن كبر والد الرئيس الذي
تسبّب نسيانه بأن يجرؤ قومٌ على معاداة إبنه!
date : 01/11/2013