البيت الشيعي العراقي ومصنع الألغام – صبحي حديدي
ذات يوم، حين كانت معزوفة «تحرير» العراق هي الأسطوانة المفضّلة لدى جنرالات الجيش الأمريكي، أسوة بمرتزقة «مجلس الحكم» العراقي؛ كانت قاذفات الـ»ف ـ 16» ومروحيات الـ»آباشي» تحصد أرواح العراقيين المدنيين بالعشرات، في صفوف النساء والأطفال والشيوخ أولاً. ويومئذ، كان الجنرال ريشارد مايرز، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي، يستخدم توصيفات مثل «المتمردين» و»العصاة» في تصنيف عناصر «جيش المهدي» التابع للزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر؛ وأما بول بريمر، الحاكم المدني الأمريكي في العراق، فقد كان يردد أنّ كابوس حياته سوف يكون مواجهة بين الشيعة وقوّات الاحتلال.
هذه الخلفية ليست عتبة صالحة للولوج إلى حجرات البيت الشيعي العراقي، الذي تعصف به الأنواء اليوم، فحسب؛ بل هي مفتاح، أيضاً، لفهم خلافات ذلك البيت بالقياس إلى أقطاب صراعاته الأخرى: العسكري مع «داعش» بادئ ذي بدء، ثمّ السياسي مع شرائح عريضة من الشارع السنّي تالياً، وصولاً إلى إرث الاحتلال الأمريكي في مجمله. فكيف إذا كانت عناصر هذه المعادلة خاضعة، من جانب آخر ليس أقلّ أهمية، لمعطيات وضع إقليمي متفجر، بالغ التعقيد، تنقلب فيه «سلّة المصالح القومية» الإيرانية إلى مصنع ألغام، وليس في وسع البيت الشيعي العراقي إلا أن يكون على التخوم الأولى المحاذية لذلك المصنع!
وفي العودة إلى إرث الاحتلال الأمريكي ـ قبل أن تنشأ منظمات مثل «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين»، أو «دولة العراق الإسلامية» أو «الدولة الإسلامية في العراق والشام»؛ وقبل أن يصعد قادة جهاديون غلاة من أمثال أبو مصعب الزرقاوي وأبو محمد العدناني وأبو بكر البغدادي… ـ عهدت واشنطن بمهمة مجابهة معضلات ما بعد الاحتلال إلى أتباع من أمثال محمد محسن الزبيدي (الذي سارع إلى تنصيب نفسه في موقع «رئيس حكومة بغداد»!) أو جودت العبيدي (في منصب «رئيس بلدية العاصمة») أو مشعان الجبوري («حاكم الموصل»). وكان طبيعياً أن يكون «امتياز» هؤلاء هو إغماض الأعين وصمّ الآذان تماماً عن السلب والنهب والتخريب (كما تردّد مراراً، وبحقّ: هذه القوّة الغازية، أمريكا، القادمة من تاريخ حضاري لا يزيد عن مائتي سنة، أنّى لها أن تحترم بلداً مستباحاً حضارته تُعدّ بآلاف السنين؟)؛ أو عقد اجتماعات لكلّ مَن هبّ ودبّ من أطراف معارضة مفلسة عاجزة، منعزلة وانتهازية، مرفوضة من الشارع العراقي العريض.
فما الذي تغيّر حقاً، وجوهرياً، في لجوء طهران إلى تعهيد شؤون العراق («ما بعد الاحتلال» أو «ما بعد التحرير»، كما يُقال لنا، زيفاً ودجلاً)؛ إلى رجال من أمثال حيدر العبادي، أو نوري المالكي قبله، أو إبراهيم الأشيقر الجعفري قبلهما؟ وأيّ عراقيين هؤلاء، قادة «الحشد الشعبي»، أمثال أبو مهدي المهندس وهادي العامري وقيس الخزعلي؛ الذين يبدأون قتال «داعش» عن طريق ارتكاب الفظائع بحقّ أبناء جلدتهم من المدنيين العراقيين السنّة، أو عن طريق التهجير القسري أو التطهير المذهبي للمناطق؛ كما أقرّ التيار الصدري ذاته، وليس أيّ فريق آخر سنّي التكوين؟
ليس عجيباً والحال هذه، بل هو المآل المنطقي الطبيعي، أنّ جماهير شيعة العراق، التي هتفت، مطلع الاحتلال، بحياة مقتدى الصدر وعلي السيستاني والحوزة العلمية، بدل أحمد الجلبي أو إياد علاوي أو موفق الربيعي أو عدنان الباجه جي أو حتى عبد العزيز الحكيم؛ تهتف اليوم ضدّ «البوّاقين»، لصوص الشعب الفاسدين المفسدين، الطائفيين اللاوطنيين، عملاء مصنع الألغام دون سواه…
ذلك لأن قاطرات التاريخ لا تسير في خطّ وحيد مستقيم، نحو اتجاهين لا ثالث لهما: إمّا الحوزة الحسينية، أو قاذفة الـ «ف ـ 16»!.