اليمين الفرنسي والنظام السوري: تحالف البرابرة – صبحي حديدي
قبل نحو عام، أعلن النائب الفرنسي جاك ميار أنه، خلال زيارة إلى دمشق قام بها مع وفد من برلمانيي اليمين الفرنسيين، تشرّف بلقاء البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، وتباحث معه حول أوضاع مسيحيي سوريا. كان ميار يحاول استمالة مسيحيي فرنسا، بالطبع، لكنّ غباءه قاده إلى الخلط بين هزيم (الذي رحل عن عالمنا قبل سنتين من وصول النائب الفرنسي الهمام إلى دمشق)، ورجل دين مسيحي يُدعى جون إكس دانتيوش! ذاك كان وفد «حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية»، الذي كان يتزعمه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي؛ وأما الوفد الثاني الذي زار النظام السوري مؤخراً والتقى مع بشار الأسد، فهو وفد الحزب ذاته بعد أن تغيّر اسمه إلى «الجمهوريون»، وما زال ساركوزي رئيسه أيضاً.
وإلى جانب حماقات ميار، كان في وسع الأسد أن يشنّف أذنيه لسماع تصريحات النائبة فاليري بوييه، التي رفعت عقيرتها من مقاعد الجمعية الوطنية الفرنسية لتتهم اللاجئين السوريين بالتخلي عن بلدهم: «بدل البقاء فيه والكفاح من أجل الحرية، في حين أن أجدادنا مكثوا في فرنسا للقتال ضد النازيين»؛ وأنهم، أيضاً، جبناء توافدوا إلى أوروبا لاغتصاب النساء. وإذا كان خطابها هذا يقتبس أفكار مارين لوبين، زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا؛ فإنّ الطريف، من جانب آخر، أنها تقارن بين النظام السوري والنازية، ثمّ تذهب إلى دمشق للتضامن مع هذا النظام إياه! أمّا رئيس الوفد، تييري مارياني (وهو ليس برلمانياً عادياً لأنه، إلى جانب كتلته اليمينية المتشددة داخل حزب ساركوزي، يشغل عضوية لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية)؛ فقد بشّر الفرنسيين بأنه وجد الأسد «أكثر استرخاءً» مما كان عليه قبل أشهر. ولأنه معجب بشخص فلاديمير بوتين، أكثر بكثير من إعجابه بشخوص الثورة الفرنسية من أمثال روبسبيير أو لافاييت أو ميرابو؛ فإنه نقل إلى أقرانه من الفرنسيين تطمينات الأسد بأنّ روسيا باقية في سوريا… وتتمدد!
والحال أنه لا جديد في هذه الخطوة، إلا بمعنى أنها استجدت زمنياً فقط بالقياس إلى خطوات سابقة في سجلّ انحطاط اليمين الفرنسي المعاصر، وربما على امتداد كامل العقود التي أعقبت انطواء المدرسة الديغولية. فهؤلاء النوّاب (لكي لا يشير المرء إلى مرافقيهم من عتاة قيادات «الجبهة الوطنية» المتطرفة) هم، بادىء ذي بدء، في عداد العناصر الأشدّ هوساً بالدعوة إلى التناغم، والتماهي، مع خطاب اليمين الفرنسي المتطرّف والعنصري والشوفيني. والخطوة، من جهة ثانية، ليست أقلّ من إنتاج، وإعادة إنتاج، نمط فرنسي مبتذل من فلسفة «المحافظين الجدد» في أمريكا، كما بشّر بها ساركوزي نفسه، على مسار سنواته في قصر الإليزيه، وكذلك في كتابه الأحدث «فرنسا إلى الأبد». وكانت زيارته إلى سوريا، سنة 2008، بمثابة كاشف لهذا الخيار، حين انتهى إلى التعاطي مع النظام وفق قاعدة «حوار على أسس واضحة، بشأن القضايا المشتركة»؛ فاكتفى بقصاصة ورق دسّها برنار كوشنر، وزير الخارجية الفرنسي يومذاك، في جيب وليد المعلّم، تضمنت لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!
وهؤلاء، في الجانب السوسيولوجي والسيكولوجي الأبعد غوراً، نوّاب يمثلون شرائح فعلية في الاجتماع الشعبي الفرنسي؛ وليس ذاك الشعبوي المحض، الذي تتقاذفه الهواجس والمخاطر والكوابيس والعقائد، والتي لم تبدأ من شرور الإرهاب المقترن بالإسلام الجهادي المتطرف، بل انطلقت من رهاب الحجاب والنقاب والبرقع، ووجدت بعض ترجماتها في اعتبار لحم الخنزير جزءاً لا يتجزأ من «القِيَم الحضارية» للمجتمع الفرنسي، بل ولليعاقبة والثورة الفرنسية الأمّ ذاتها! وهؤلاء نوّاب يستغلون، لأنهم في الواقع يقتاتون سياسياً وأخلاقياً على، سلسلة المفاهيم التي تضخّم خواف الفرنسيّ مثلما تدغدغ نزوعاته القوموية، وكلّ ما يتصل بالقلق حول الهوية، وبالذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض؛ ثمّ ما يتصل بالحذر من متغيرات عاتية تأخذ الفرنسي على حين غرّة وتضعه بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية، على حدّ تعبير بيير بورديو، عالم الاجتماع والمفكّر الفرنسي البارز (1930 ـ 2002).
ومنذ أحداث 1968 (التي طوت صفحة الديغولية، ولم يكن غريباً أن يدعو ساركوزي إلى «تصفيتها»، دون حياء من المحتوى الجلف غير الديمقرطي لفكرة التصفية)؛ وفرنسا في حال من البحث المضني: إنها تبحث، بصمت مخدَّر تارة، وبصخب مؤلم طوراً، عن هوية فكرية وثقافية واجتماعية تكفل الخروج ـ أو بعض الانفلات، بعض النقاهة، بعض التحرّر… ـ من حال تأرجح طويل بين الماضي والحاضر، وبين تراث الجار الألماني على مبعدة أمتار، والحليف الأمريكي وراء المحيط. وفي علم النحو الفرنسي ثمة صيغة فعلية تُدعى «الزمن الماضي الناقص»، أتاحت لعدد من المفكرين أن ينقلوا صيغة الفعل من فقه اللغة إلى فقه الحياة اليومية، فلم يجدوا صعوبة كبيرة في وصف الحاضر الفرنسي بأنه… زمن ماضٍ ناقص.
وكان بورديو أحد آخر الكبار المحترمين، أفراد قلّة قليلة حقاً، ممّن كرّسوا الكثير من الجهد المعمّق المنتظم والمنهجي لدراسة ظواهر السياسة اليومية في فرنسا المعاصرة، ولم يكتفوا بالتأمّل المحض بل انخرطوا في الفعل أيضاً، وفي المشاركة المباشرة. وهذا الرجل كان شديد القلق إزاء شبكة العلاقات المعقدة بين رأس المال المعاصر والخطاب السياسي الشعبي، أو حتى الشعبوي؛ وكان بالغ الحصانة ضدّ إغواء الألعاب النظرية ما بعد الحداثية (على الطراز الذي أشاعه جان بودريار مثلاً، حين اعتبر أنّ حرب الخليج الثانية، 1990، لم تقع!)، التي تطمس التاريخ كشرط أوّل لافتتاح اللعب. ولم يكن غريباً بالتالي أن بورديو، صحبة نفر قليل من ممثلي هذه الأقلية، شارك في اجتماع شهير مع القيادات النقابية الفرنسية لاتخاذ قرار الإضراب الشامل الواسع الذي شلّ مختلف قطاعات الحياة اليومية الفرنسية أواخر العام 1995. ولم يكن غريباً، أيضاً، أنه آنذاك وضع إصبعه على الغور العميق للجرح الحقيقي، أي اغتراب المجتمع الفرنسي بين خيارين أحلاهما مرّ، بل شديد المرارة: الليبرالية الهوجاء التي تخبط في الإصلاح خبط عشواء، والبربرية الوقحة لنفر من التكنوقراط يرون أنهم يعرفون الدرب إلى سعادة الأمّة أكثر من الأمّة نفسها، قبلها وبعدها وفي غيابها إذا اقتضى الحال.
وآخر تجليات هذا التحالف البربري، بين أمثال النائب الفرنسي والنظام السوري، ما قاله مارياني عن الأسد: «كان واضحاً: إنه مستعد للقيام بانفتاح واسع، واستقبال جزء من المعارضين، والعفو عن مقاتلين ضدّه وإدخالهم في الجيش، شريطة أن يحترموا سلطته. لكنه غير مستعدّ أبداً للتنازل عن الحكم»! تخيّلوا هذا النائب، الذي انتُخب ديمقراطياً في بلده فرنسا، كيف يدافع عن رأس نظام لا يقبل، «أبداً»، بالتنازل عن سلطة استبداد وفساد ومجازر وجرائم حرب، تسلمها أصلاً بالوراثة من أبيه، وهو اليوم أباد نصف مليون مواطن، وهجّر الملايين داخل البلد وخارجها، واستخدم صنوف النيران كافة، ويدمّر سوريا بأسرها… دفاعاً عن عرش الدمّ؛ ذاته الذي ذهب أمثال مارياني وبوييه وميار لمصافحته!
وكيف، للأسف، يمكن لهذا التحالف البربري ألا يدفع العشرات من الشبان الفرنسيين، العرب أو المسلمين، إلى اختيار التشدد والتطرف، والركون إلى أشدّ عناصر الهوية جموداً وقتامة وانعزالاً وحقداً؟ وكيف لا يهجرون هذه الديمقراطية، ويهاجرون نحو «داعش» بوصفها بديل استنهاض الذات الجريحة المهانة، ومخرج الثأر وردّ الصاع إلى «ديمقراطيي» هذا الزمان، حلفاء البرابرة؟