انسحاب بوتين: الظاهر أصدق إنباءً من الخافي – صبحي حديدي
في وسع امرىء، متعقل عند الحدود الدنيا فقط، أن يطمئن إلى نفسه إذْ يضرب صفحاً عن تسعة أعشار ذلك النمط من التحليلات التي تُعنَون على هذا المنوال وتنويعاته: الأسباب الخفية (ثلاثة، أربعة، خمسة…) وراء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانسحاب من سوريا. أسهل، بكثير في الواقع، وأشدّ احتراماً للعقل، أن يتمعن المرء في الظاهر من القرار، وليس في ما خفي داخل الكواليس ويظلّ طيّ الترجيح والرجم بالغيب؛ خاصة وأنّ في الخيار الأول مادّة وفيرة، بيّنة لتوّها، بل ساطعة، أقرب إلى تحصيل حاصل لا يستدعي مشقة الاستنتاج والاستنباط والتكهن.
ففي الواضح الجلي إعلان بوتين أنّ الهدف من التدخل العسكري في سوريا هو محاربة «الإرهاب» في عقر دياره، وقبل أن يتفشى فينتقل إلى الديار الروسية؛ وهذا هدف باء بفشل ذريع، رغم آلاف الطلعات، لأنّ «داعش»، المحور الأوّل المعلَن خلف مجيء موسكو، ما تزال حيّة تتمدد وتسعى وتتسع. ولم يكن مراقبو الشأن السوري على الصعيد العالمي، وربما في ما تبقى من أطلال إعلام روسي موضوعي، بحاجة إلى تطبيق قواعد منطقية تفضي إلى هذه الخلاصة؛ لا لشيء إلا لأنّ طلعات القصف الجوي الروسية طالت المشافي التي تديرها منظمات دولية محايدة مثل «أطباء بلا حدود»، بعد أن استهدفت المستوصفات المدنية ورياض الأطفال والمدارس والمساجد والأسواق الشعبية، وأودت بحياة قرابة 2000 مدني سوري أعزل.
وكذلك، على قدم المساواة، كان الهدف الحقيقي غير المعلن هو انتشال ركام جيش النظام من حافة الهاوية، ثمّ إصلاح التوازنات على الأرض عبر معادلة تقول بإمكانية ترجمة القصف الجوي (ضدّ المعارضة وفصائل الجيش الحرّ، تحديداً) إلى مكاسب ميدانية: سواء عن طريق استعادة ما تمّ خسرانه من مناطق، أو وقف خسران مناطق أخرى ذات أهمية فائقة للنظام (الساحل وشمال حلب وسهل الغاب، أساساً)؛ إنْ لم يكن عن طريق ركام الوحدات النظامية والميليشيات الموالية، فعلى الأقلّ عن طريق مقاتلي «حزب الله» ومرتزقة الميليشيات المذهبية الإيرانية والعراقية والأفغانية وسواها. هنا، أيضاً، لا تبدو الحصيلة هزيلة تماماً ـ بالقياس، دائماً، إلى الحجم الهائل من القوّة التدميرية التي استخدمتها موسكو، بالأسلحة الأرقى ـ فحسب؛ بل ثمة ما هو فاضح بالمعنى العسكري الصرف، لأنه كشف الكثير من عيوب الجيش الروسي، والكثير من نقاط ضعفه (ليس أبرزها سقوط الصواريخ، عابرة القارات إلى سوريا، في الباحة الإيرانية!).
وفي الظاهر، ثالثاً، أن بوتين شاء افتتاح ساحة قتال إضافية في سوريا، تستكمل حروبه مع الغرب والولايات المتحدة، التي تُخاض منذ سنوات على ثلاث جبهات: العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو، وخفض أسعار النفط، والمسألة الأوكرانية. ليست أقلّ ضراوة تلك المواجهات الشرسة، الدامية أيضاً، التي تستنزف من موسكو خسائر بقيمة 600 مليار دولار أمريكي، خلال الفترة بين 2014 و2017؛ وليس في وسع الـ»سوخوي 25» أن تكون فيها فيصلاً حاسماً، سواء خيض الصراع مباشرة في كييف عاصمة أوكرانيا، أو بالإنابة في سوريا عبر مطار حميميم! لكن هذه الساحة القتالية (التي قدّر لها الكرملين ثلاثة شهور لكي تأتي أكلها)، أسفرت عن مآل أقرب إلى نقيض: تآكل مضطرد لديناميكيات التدخل الجوهرية، بل والبسيطة أحياناً، حتى بعد أن استطالت الأشهر الثلاثة إلى سبعة، وتكثفت أوحال «المستنقع السوري»، وأخذت شباك الورطة تلتف حول عنق الدبّ الروسي أكثر فأكثر، واتضح أنه يوشك على استئناف سجيته التاريخية المأثورة: التخبط في مخزن خزف!
وفي الظاهر، رابعاً، أنّ نطاسي السياسة الخارجية الروسية، سيرغي لافروف، أقنع سيد الكرملين بأنّ «عقيدة أوباما» ـ الذي جاء لانتشال أمريكا من حروب سلفه جورج بوش الابن، لا للانخراط في أي مستوى من الاحتراب ـ هي الفرصة الثمينة لكسر أحادية القطب، والعودة إلى المنطقة، بل للانقضاض على ما لأمريكا فيها: عبر مياه المتوسط الدافئة، وبالتراضي مع إسرائيل بنيامين نتنياهو، ليس دون إغفال إيران وبوابتها العراقية. فات لافروف، مع ذلك، خاصة وأن ثقافته في تاريخ المنطقة ضحلة وسطحية واستشراقية (خشي ذات يوم من «دولة سنّية» في سوريا لا يكون فيها مستقبل لـ»ديانات» أخرى مثل العلويين والمسيحيين و… الكرد!)؛ أنّ الفخّ الأمريكي لم يكن يتشوّف إلى تطوّر آخر مثل تشوّفه إلى تورّط موسكو في «المستنقع السوري» إياه: كانت واشنطن سعيدة بحربَيْ استنزاف مجانية يخوضها خصمان، إيران و»حزب الله»، في صالح إسرائيل أولاً؛ فباتت أسعد بانضمام موسكو إلى النادي، بثمن بخس دائماً في إنفاق واشنطن، وباهظ تماماً في مديونية الكرملين…
هذه، مع اختلاف ضروري في التفاصيل، ليست حال جديدة على بوتين، وفي وسع المرء أن يعود بالذاكرة عقداً من الزمن إلى الوراء، ليكتشف بوتين المتمرد على نظام القطب الواحد، «اللاديمقراطي» في توصيفه. آنذاك لاح أنّ الرئيس الروسي أشبه بنافخ في قربة مثقوبة. فما الذي، في سؤال واحد كافٍ، منع موسكو من استخدام حقّ النقض (الـ»فيتو») في مجلس الأمن الدولي، لتجريد واشنطن من غطاء «الشرعية الدولية» في غزو أفغانستان والعراق، وذاك كان أضعف الإيمان على درب اختراق نظام القطب الواحد؟
أيضاً، حين كانت أنظار العالم منشدّة إلى أمريكا على أكثر من صعيد (مجازر جيش الاحتلال الأمريكي في مدينة الفلوجة العراقية، وذبح مئات الأبرياء من أبنائها بذريعة محاربة الإرهاب، واستقالة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول، وتوطيد صفوف «الصقور» في الإدارة ذاتها بعد ترشيح كوندوليزا رايس لقيادة الدبلوماسية الأمريكية…)؛ مَن الذي دخل على الخطّ بغتة، ودونما دعوة؟ بوتين، بالطبع، حين عقد اجتماعاً دراماتيكياً مع أركان القيادة العسكرية الروسية، وباغت العالم بأنّ روسيا سوف تنشر في الأعوام القليلة القادمة أنظمة صواريخ نووية جديدة متفوّقة على كلّ ما تمتلكه القوى النووية الأخرى في العالم أجمع.
الصواريخ تلك لم تُنشر، بالطبع، ولكن قبل أيام معدودات سبقت رياضة التصريحات الملتهبة كان رودريغو راتو، المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، يقوم بزيارة خاطفة إلى روسيا للبحث في ضرورة سداد موسكو ديون الصندوق (بوصفه الدائن الأكبر) اعتماداً على الوفر الخاصّ الذي نجم مؤخراً عن ارتفاع أسعار برميل النفط. آنذاك توجّب على موسكو أن تسدّد مبلغ 2.7 مليار دولار أمريكي، وكان واضحاً أنّ بوتين يتخاطب مع راتو بصدد تأجيل تلك الديون، عن طريق التلويح بأنّ الصبر على المدين أفضل كثيراً من حشره خلف منصّة صاروخ نووي! المدهش، رغم هذا، أنّ إدارة بوش لم تأخذ تلك التصريحات على محمل الجدّ، وأعلن الناطق باسم البيت الأبيض آنذاك، سكوت ماكليلان، أنّ أخبار موسكو ليست جديدة على الإدارة: «نحن على اطلاع تامّ حول جهودهم الثابتة لتحديث آلتهم العسكرية».
وهكذا فإنّ خلاصة الحال سبق أن اختصرها وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت غيتس، في أنّ حرباً باردة واحدة تكفي، وأمريكا لا تنوي استئناف أيّ من تلك المعارك الافتراضية العتيقة مع موسكو. وأمّا اليوم فإنّ إدارة بوتين هي التي تختصر حالها، بذاتها، دبلوماسياً وعسكرياً واقتصادياً، وفي أُطُر وأخلاقيات أحادية القطب دون سواها: رحم الله قوّة عظمى عرفت حدّها، فوقفت عنده؛ أو ارتدت إليه، اضطراراً أو رضوخاً أو تعقلاً، إثر مغامرة قاصرة الحسابات، عاثرة!