الصفعات الأمريكية، على وجوه أولئك «المعارضين» السوريين، الذين أملوا الخير كله من أمريكا، وعليها علقوا الآمال جميعها؛ لا تتعاقب وتتنوّع في الزمان والمكان، فحسب؛ بل صارت أقرب إلى مزيج من جزاء مستحقّ لكلّ تابع ذيلي مراهق، ودرس سياسي وأخلاقي لكلّ ذي بصر وبصيرة. معركة منبج، الميدان الأحدث لاستكمال افتضاح السياسة الأمريكية المعادية لانتفاضة الشعب السوري، تشهد تطورات يومية في ميدان الصفع هذا؛ الأمر الذي لم يضع واشنطن أمام أي حرج في سَوْق أتباعها «المعارضين» السوريين إلى ميادين مهانة أخرى: منح بثينة شعبان تأشيرة دخول إلى أمريكا، خارج إطار الأمم المتحدة، على سبيل المثال.
فإذا جاز لـ»نادي الصحافة»، في واشنطن، وهو مؤسسة صحافية مستقلة، أن يستضيف مَنْ يشاء، متى شاء ـ وقد شاء استضافة شعبان للمشاركة في ندوة عن «مناهضة الإرهاب»، يحضرها أيضاً مندوب عن قوات «الحشد الشعبي» العراقية! ـ فليس لهذا النادي، أو أية جهة أمريكية، خرق القانون؛ متمثلاً في الأمر التنفيذي الرئاسي رقم 13582، المؤرخ في 18 آب/أغسطس 2011، الموجه من الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى وزارة الخزانة، والذي يفرض سلسلة عقوبات على شعبان ـ صحبة وليد المعلم وعلي عبد الكريم علي ـ تضاف إلى قائمة عقوبات سابقة شملت بشار الأسد وفاروق الشرع وعادل سفر ومحمد ابراهيم الشعار وعلي حبيب وعبد الفتاح قدسية ومحمد ديب زيتون. من جانب آخر، هل نسي السادة في نادي الصحافة أنّ شعبان تمثل نظاماً مسؤولاً عن اغتيال عشرات الصحافيين، أمثال ماري كالفن وميكا ياماموتو وجيل جاكيه، لكي يُذكر الأجانب منهم فقط؟ وحتى بعد أن تراجع النادي، واكتفى من شعبان بمشاركة عبر السكايب، فهل انتفى المحظور الأخلاقي حقاً؟
ولكن إذا كان للنادي أن يخرق القانون، ويتجاوز على الضمير المهني والمدونة الأخلاقية؛ فكيف، ومَنْ في البيت الأبيض أو وزارة الخارجية الأمريكية، كان سيسمح بمنح شعبان تأشيرة دخول؟ وإذا لم تكن أوامر الرئيس الأمريكي قابلة للتنفيذ من جانب مرؤوسيه، ألا يستذكر صاحب الإذن بالتأشيرة دورَ شعبان الإرهابي، المباشر والصريح، كما جاء في التسجيلات الصوتية، ثم الاعترافات، التي أدانت ميشال سماحة بالتخطيط لأعمال تفجير إرهابية في لبنان؟ ألم تسفّه شعبان يقين أوباما حول مسؤولية النظام السوري عن هجمات آب 2013 الكيميائية، وخرجت بتلك النظرية الوقحة: «المسؤول عن ذلك هم المسلحون الذين خطفوا الأطفال والرجال من قرى اللاذقية وأحضروهم إلى الغوطة حيث وضعوهم في مكان واحد واستخدموا ضدهم الأسلحة الكيميائية»؟
معركة منبج، في المقابل، لا تدور في واشنطن وفي أندية صحافية خاصة، بل على الأرض السورية، وبتدخل مباشر من وحدات عسكرية أمريكية أياً كانت صفتها. وهذا خيار سياسي بالطبع، قبل أن يكون عسكرياً، تنخرط فيه إدارة أوباما ضمن سلسلة اعتبارات؛ بعضها مستجدّ، يتصل بالتطورات الميدانية والعملياتية، وبعضها الآخر قديم ينبثق من «عقيدة أوباما» بصفة عامة، وتفاصيل هذه العقيدة كما تُرجمت في معالجة الملفّ السوري خصوصاً. وثمة مَن يذهب أبعد، محقاً بدرجة كبيرة ضمن أسباب موجبة، حين يرى في انفتاح وزارة الدفاع الأمريكية على «قوات سوريا الديمقراطية»، أو «قسد» كما ستُختصر هنا، محاولة لإعادة إنتاج «الصحوات» العراقية؛ بوصفها وحدات قتال بالإنابة، تتلقى من البنتاغون تدريباً وتسليحاً وإسناداً لوجستياً، وبعض الانخراط القتالي المباشر أحياناً، على نحو يجنّب واشنطن مفهوم التورط الشامل، ويخدم في الآن ذاته سلسلة أغراض تكتيكية، ليست بعيدة أيضاً عن خدمة ستراتيجيات عليا.
فإذا جاز أنّ حرب البيت الأبيض ضدّ «داعش» تدخل ضمن تلك الستراتيجيات العليا، فإنّ الانفتاح على «قسد» يندرج شرعاً ضمن التكتيكات التي تبيح المحظورات، أو بعضها على الأقلّ: كأن يُستثار جنرالات الجيش التركي، وهم أعزاء على واشنطن قبل، وربما أكثر بكثير، من الرئيس رجب طيب أردوغان؛ أو أن يُقال بأنّ وزارة الخارجية الأمريكية تصنّف «حزب العمال الكردستاني»، الـPKK، في خانة الإرهاب، لكن البنتاغون يتعاون مع أذرعه العسكرية في سوريا، ممثلة في «قسد» و«حزب الاتحاد الديمقراطي»، رغم أنّ آمري المجموعتين الفعليين ليسوا في سوريا بل في جبال قنديل، حيث القيادة العسكرية للـPKK. أكثر من هذا، إذا قيل إن واشنطن تفضّل العمل مع الكرد، كأقلية إثنية، مما يشجّع نزوعات انقسام وتشرذم «المتحد السوري»؛ ردّ ثقاة الخارجية والبنتاغون بأنّ «قسد» ليست كردية، بل تتألف من العرب بنسبة 80٪!
كلا الاعتبارين السابقين، إعادة إنتاج مفهوم الصحوات ومزج تكتيكات محاربة «داعش» بخلفياتها الستراتيجية، ينهض على اعتبار ثالث أقدم، وأبعد أثراً، وأشدّ أهمية في منظومة «عقيدة أوباما»: أي، ترك الخصوم يغرقون في مستنقعات استنزاف سوريا تنتهي، في مآلاتها الختامية، إلى خدمة مصالح أمريكا… بالمجان! حرب أولى تخوضها إيران، التي لم تعد حليفة النظام السوري اقتصادياً وعسكرياً فقط، بل صارت طرفاً مقاتلاً بجنرالات الجيش النظامي وليس بضباط قاسم سليماني و»الحرس الثوري» وحدهم. وغنيّ عن القول إنّ هذا المستوى من التورّط لا يضعف إيران عسكرياً واقتصادياً فقط، بل يُثقل كاهلها سياسياً على مستويات داخلية وإقليمية، ويقطع خططها التنموية، ويربك برامجها التسليحية ولا سيما النووي منها؛ وبالتالي يضعفها أكثر ممّا كانت تفعل العقوبات الاقتصادية.
الحرب الثانية تخوضها إيران، أيضاً، ولكن بسلاح «حزب الله» اللبناني، وخسائر الحزب الجسيمة، البشرية والعسكرية، ليست البتة أكثر إضراراً به من خسائره السياسية والمعنوية. وهذا حزب كان يتفاخر بأنه «فصيل مقاومة» ضدّ إسرائيل، فكان أن مَسَخَ ذاته إلى فصيل قتال ضدّ الشعب السوري، ترك إسرائيل واستدار للدفاع عن نظام استبداد وفساد ومزرعة عائلية وجرائم حرب وإبادة. وتلك مشاعر لم تقتصر على جموع السنّة العرب والمسلمين الذين ساندوا الحزب طيلة عقود، بل شملت أيضاً قطاعات من الشيعة أنفسهم. وهنا أيضاً، على غرار التورّط الإيراني، ليست خسائر «حزب الله» إلا مكاسب أمريكية، بالمجان دائماً.
حرب الاستنزاف الثالثة تخوضها روسيا فلاديمير بوتين، ويراقب البيت الأبيض اشتعالها على مبعدة، وعن كثب، أو حتى بمشاركة وتنسيق (وتوريط؟)؛ كما في معركة منبج الراهنة على سبيل المثال. فإذا صحّ أنّ واشنطن اكتفت بمراقبة اهتراء النظام السوري عن بُعد، من الصفّ المتفرّج، متجاوبة في هذا مع رغبة إسرائيل في المدّ بعمر النظام حتى آخر حضيض ممكن من تدمير البلد واستنفاد قواه؛ فإنّ الشطر الآخر من الموقف الأمريكي اتخذ وجهة توظيف ما يُتاح توظيفه من خسائر موسكو، بحيث يتحوّل إلى أرباح أمريكية ميدانية. وهنا، أيضاً، يبدو مثال التعاون الروسي مع «قسد» نموذجاً على تجيير العلاقة لصالح أمريكا، الجهة الأكثر إغواءً في ناظر 25، على الأقلّ، من المجموعات الـ27 التي تشكّل كيان «قسد».
ويبقى اعتبار رابع، أقلّ أهمية، لأنه يتصل بمسلسل الصفعات التي تكيلها واشنطن لـ«معارضة» سورية رهنت ذاتها ـ الهزيلة أصلاً، زاعمة التمثيل، كاذبة التأصيل، تابعة الولاءات ـ لإدارة لم تكن في أيّ يوم صديقة تطلعات الشعوب العربية إلى التحرر والكرامة والديمقراطية والمواطنة العصرية؛ وكانت، على العكس، حليفة الدكتاتوريات وأنظمة النهب. فما الذي يجبر أوباما على التعاون مع «معارضة» لا تتقن من فنون السياسة إلا إدارة الخدّ الأيسر بعد صفعة الخدّ الأيمن؟ وإذا لم تكن صالحة حتى لتأمين رغيف الخبز والسترة والطلقة لأفراد «الجيش الحرّ»، مفخرتها الوحيدة؛ فلماذا يتوجب أن تستحق من واشنطن أي اهتمام، حتى في مرتبة… «الصحوات»؟