بوتين وحلب: حلم نبوخذ نصّر- صبحي حديدي
في مثل هذه الأيام، ولكن قبل ثلاث سنوات، كان بشار الأسد يعيش نشوة انتصار عسكري نادرة، بل لعلها كانت الأولى منذ أن لجأ إلى استخدام أقصى أنماط العنف، وأشدّ النيران فتكاً، في محاولة قمع الانتفاضة الشعبية. كانت ميليشيات حليفه حسن نصر الله قد اجتاحت بلدة القصير، في ريف حمص، وسط تهليل واحتفاء، والكثير من التضليل والتزييف حول الأسباب التي تجعل القصير بوّابة لحماية مقام السيدة زينب، في ظاهر دمشق.
وتلك نشوة دغدغت أوهام الأسد في استخدام الحليف إياه ـ ولكن بأعداد تُحتسب بالآلاف وليس بالعشرات أو المئات؛ وبإسناد مباشر من وحدات الجنرال الإيراني قاسم سليماني؛ والميليشيات الشيعية العراقية، ومرتزقة أفغان وحوثيين وسواهم؛ ثم… بتواطؤ ميداني مباشر مع «داعش» ـ لمحاصرة مدينة حلب، وتوجيه ضربة قاصمة إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. وإلى جانب أحياء المدينة ذاتها، كان ثلاثي الأسد/ نصر الله/ سليماني يتطلع إلى استكمال مشهد ستراتيجي كاسح على الأرض، يتضمن توليف العناصر التالية، وزجها في المعركة: كسر الحصار عن قاعدة وادي الضيف، وتنشيطها؛ والقيام بخطوة مماثلة، في مطار منغ؛ وتحريك الميليشيات الموالية، في نبل والزاهرة؛ وإقامة تنسيق عملياتي مع «وحدات الحماية الكردية»، في حيّ الشيخ مقصود ذي الأغلبية الكردية؛ وصولاً إلى شنّ الهجوم الأرضي، بعد حملات قصف جوي ومدفعي مكثفة.
وذاك خيار فشل سريعاً، بل أسفر عن نتائج معاكسة تماماً، فخسر النظام الكثير، خاصة في ريف حلب الشمالي وإدلب والغاب، وبات سقوطه العسكري أقرب من أية برهة سابقة؛ الأمر الذي استوجب تدخلا روسياً مباشراً، اُضيف إلى المشهد الستراتيجي السابق إياه. ورغم آلاف طلعات القصف الروسية، واستقدام المزيد من مقاتلي «حزب الله» و»الحرس الثوري» الإيراني والميليشيات المذهبية والمرتزقة، فإنّ عناصر الميزان العسكري مع المعارضة، بما في ذلك خطوط الاشتباك مع «جبهة النصرة» و»أحرار الشام»، وخطوط التواطؤ مع «داعش»، ظلت على حالها تقريباً، دون تغيير جوهري.
وإذا كانت أغراض التدخل الروسي في سوريا عديدة ومتشابكة، بعضها جلي قريب وبعضها الآخر خفيّ بعيد المدى؛ فإنّ أحد الأغراض العسكرية الواضحة كان تمكين جيش النظام، وحلفائه، من إعادة استجماع القوى على نحو يتيح تحقيق مكاسب مادية صريحة، واسترداد مناطق ذات قيمة ستراتيجية، أو ذات صفة رمزية؛ لا تعيد زمام المبادرة إلى النظام فقط، بل تتحوّل إلى أوراق ضغط على طاولة المفاوضات: في يد موسكو، مع واشنطن والغرب حول ملفات أوكرانيا وسعر برميل النفط والقبّة الصاروخية في أوروبا؛ ثمّ، استتباعاً، في يد موسكو أيضاً، حين يتوجب أن تقترح الحلّ السياسي الذي يرضيها في سوريا.
وما دامت جميع المؤشرات تؤكد أن عمليات القصف الجوي الوحشية التي نفّذها طيران النظام استهدفت تهجير المدنيين من حلب، نحو الحدود التركية، بوصفها الوحيدة المتاحة، ولكن المغلقة، في آن معاً؛ فإنّ معركة حلب الراهنة هي، أيضاً، فصل جديد في حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضدّ نظيره التركي رجب طيب أردوغان. وهنا، لا يحتاج المرء إلى ذكاء إضافي كي يدرك أبعاد قيام طيران النظام بقصف مخيم كمونة للاجئين، الذي يقع داخل الأراضي السورية، ولكن على الحدود التركية.
ومنذ حزيران (يونيو) 2013، لا يلوح أنّ المشهد العسكري في حلب قد تغيّر كثيراً، ما خلا أنّ الكفة مالت لصالح المعارضة في الواقع؛ الأمر الذي لا يعني أنّ استيهامات الأسد لن تصيب بوتين بالعدوى؛ فيحلم، مثلاً، بأن يقود صديقه فاليري جيرجيف أوركسترا مارينسكي حين تعزف أوبرا «نبوخذ نصّر»، على سلالم قلعة حلب!