تركيا في جرابلس: هل تقدّم أردوغان أم تقهقر أوباما؟ -صبحي حديدي
في غمرة الحديث عن التحوّل العسكري التركي النوعي بصدد الملفّ السوري، ودخول الدبابات التركية إلى بلدة جرابلس السورية، ضمن تعاون وثيق وميداني مباشر مع بعض فصائل «الجيش الحر» لانتزاع البلدة من قبضة «داعش»؛ تناسى الكثيرون، تحت وطأة ما اتسم به الحدث من سخونة، أنّ هذه ليست بالضبط المرّة الأولى التي شهدت دخول الجيش التركي إلى الأراضي السورية. وكما هو معلوم، في أواخر شباط (فبراير) 2015، عبرت قوّات تركية (39 دبابة، 57 عربة مدرعة، 100 عربة، و572 جندياً) إلى محيط ضريح سليمان شاه، جدّ مؤسس الإمبراطورية العثمانية، تبعتها قوّات إضافية انتشرت في قرية أشمة؛ فرفعت العلم التركي، ودمّرت جميع مباني الضريح، بعد أن جمعت ونقلت «الأمانات ذات القيمة المعنوية العلالية» إلى الداخل التركي.
ما يُنسى أيضاً، رغم أنه أعلى دلالة، وأكثر ارتباطاً بواقعة جرابلس الراهنة؛ أنّ تلك القوّات التركية دخلت إلى الأراضي السورية بالتنسيق مع الوحدات الكردية في غرفة عمليات «بركان الفرات»، والتي كانت تضمّ «وحدات الحماية الكردية» (الـ ي ب ك)، و»ثوار جبهة الأكراد»، فضلاً عن «ثوار الرقة»، و»ألوية فجر الحرية». واليوم لا تخفي تركيا، بلسان رئيسها رجب طيب أردوغان شخصياً، أنّ الهدف من عملية «درع الفرات» لا يقتصر على دحر «داعش» في جرابلس، بل ينطوي أيضاً على محاربة «إرهابيي حزب الاتحاد الديمقراطي». وهكذا، إذا كانت الفوارق بين «بركان الفرات» و»درع الفرات» تنبثق من متغيرات عديدة في جيو ـ سياسة المنطقة، والخيارات التركية في الملفّ السوري، وأحوال «داعش» العسكرية ميدانياً (في هذا الجيب السوري، أو في جيوب أخرى سورية وعراقية)؛ فإنّ فوارق أخرى، موازية ومتكاملة ذاتياً، تخصّ واقع القوى الكردية المقاتلة ـ ضمن مجموعات الـ ي ب ك و»قوات سوريا الديمقراطية»، على حدّ سواء ـ تنبثق من التحوّل الأخير الذي طرأ على الموقف الأمريكي تجاه هذه القوى.
أهذا فصل جديد، في مسلسل الخيانات الأمريكية للكرد، والتي تكررت على امتداد قرن ونيف، في إيران كما في تركيا، وفي العراق أسوة بسوريا؟ ليس تماماً في الواقع، لأسباب ثلاثة رئيسية، بين أخرى أقلّ شأناً: 1) لم تكن واشنطن مساندة، البتة، لأي مشروع كردي ذي صفة كانتونية في «روجافا» أو «كردستان السورية»، وبالتالي ليس من الإنصاف اتهام أمريكا بالحنث بأي وعد في هذا الصدد؛ و2) في مناطق الجزيرة السورية عموماً، المالكية (ديريك) ورميلان والقامشلي والحسكة وعامودا والدرباسية، وكذلك في عين العرب (كوباني) وعفرين ومنبج… لم تشجّع واشنطن أيّ تنشيط، من أيّ نوع، لنواة «دويلة» كردية، بل لعلّ العكس كان هو الصحيح؛ و3) السذّج وحدهم (وثمة نماذج منهم، للأسف، في قلب القيادات الكردية، الـ ي ب ك و»قوات سوريا الديمقراطية» و»حزب الاتحاد الديمقراطي» ذاته)، صدّقوا أنّ ما تريده واشنطن من الكرد يتجاوز قتال «داعش»، فقبلوا بصيغة التعاون تحت اشتراطات دقيقة مُحْكمة، بعضها أقرب إلى منطق التبعية منها إلى التحالف.
ليست خيانة، إذن، لأنها لا تخرق اتفاقاً تعاقدياً بين البنتاغون و»حزب الاتحاد الديمقراطي» ومجموعاته العسكرية المختلفة، من جهة؛ ولكنها، من جهة ثانية، ليست مجرّدة تماماً عن استسهال الغدر، والانقلاب على الحليف، وتبديل السياسات في أية برهة ذرائعية، وسوى هذه وتلك من تراث التعامل الأمريكي مع «الحلفاء المحليين» عموماً، وكرد المنطقة خصوصاً. الأمر الذي يطرح السؤال المشروع اللاحق: لماذا تغيّر موقف واشنطن الآن؟ أو بالأحرى: لماذا تغيّر هذا الموقف لصالح الخيار التركي (وضدّ الكرد، منطقياً واستطراداً)، بعد أن كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد تمسك بموقف مغاير، وامتنع عن إطلاق يد أنقرة في الملف السوري إجمالاً، وحول المعادلة الكردية ضمن هذا الملفّ خصوصاً؟ وإذا جاز القول إنّ الأسباب الكلاسيكية واضحة لكلّ ذي بصيرة (تركيا ما بعد إفشال الانقلاب العسكري، العلاقات التركية ـ الأمريكية في ضوء فشل الانقلاب، زيارة أردوغان إلى موسكو وإحياء العلاقات الروسية ـ التركية، انفتاح آفاق جديدة لحوار إيراني ـ تركي…)؛ فإنّ الأسباب غير الكلاسيكية، في المقابل، وغير المنكشفة المعلَنة، كانت بدورها ذات ثقل في تبدّل موقف واشنطن.
بادىء ذي بدء، اعتبرت واشنطن أنّ «حزب الاتحاد الديمقراطي» أدّى، عبر مجموعاته العسكرية، ما كان مطلوباً منه في قتال «داعش»، في ساحتَيْ عين العرب (كوباني) ومنبج، معاً؛ ولهذا فإنّ أيّ نزوع كردي إلى التمدد خارج هذا النطاق، «غرب الفرات» كما في المصطلح الشائع، وخاصة ربط هاتين البلدتين مع عفرين، هو انخراط في مشروع «دولة» كردية، على الأرض، فعلية بمقدار أوسع، وتتجاوز الصيغة البلاغية واللفظية والمجازية لفكرة «روجافا» أو «كردستان السورية»؛ وهذا خطّ محرّم أمريكياً. ذلك لأنه، أيضاً، خطّ أحمر تركي لا يُلحق الأذى بدولة حليفة، عضو في الأطلسي، حاضنة القاعدة العسكرية الأمريكية/ الأطلسية الأهمّ في المنطقة، فحسب؛ بل أيضاً لأنه يتناقض، حتى بالمعنى الشكلاني، وحسّ المنطق البسيط، مع المعادلة التبسيطية التالية: كيف يمكن لواشنطن أن تدعم كياناً تهيمن عليه مجموعة سياسية ـ عسكرية، يحدث أنها امتداد سياسي وعسكري للـ ب ك ك، المنظمة الأمّ التي تصنّفها واشنطن رسمياً في خانة «الإرهاب»؟
لكنّ أنقرة، في احتساب سبب ثانٍ، لم تلبث ساكنة ساكتة، مكتوفة اليدين، تنتظر تبدّل الموقف الأمريكي بعد انتزاع منبج من قبضة «داعش»؛ بل كانت قد لعبت دوراً ـ قابلاً للنقاش، من حيث أحجامه الحقيقية، ميدانياً على الأقلّ ـ في تكييف معارك حلب الأخيرة، ومعمعة سقوط مدارس وكليات النظام السوري في أيدي قوّات المعارضة. كذلك تولّت أنقرة تشجيع «الجيش الحرّ» على طرد «داعش» من بلدة الراعي، ونقل عدد من الفصائل («حركة نور الدين الزنكي»، «فيلق الشام»، «لواء المعتصم»، «فرقة السلطان مراد»… ) إلى معركة جرابلس، تمهيداً لضرب «خلافة البغدادي» في واحد من آخر معاقلها الحلبية: بلدة الباب. وليست مصادفة، أو أعجوبة عسكرية، أنّ «تحرير» جرابلس استغرق تسع ساعات فقط، وأنّ «داعش» لم تقاتل عملياً بل انسحبت بانتظام، وأنّ طيران التحالف الدولي (أي الطيران الحربي الأمريكي أساساً) ساهم في المعركة مباشرة.
أخيراً، في ترجيح سبب ثالث، لم تكن مساندة واشنطن للكرد خالية من إشكالية خاصة، سياسية وسوسيولوجية وإثنية، محرجة ومربكة في الواقع، هي استبعاد العرب من قتال «داعش» في المقام الأوّل (ومن هنا حرص البنتاغون على تضخيم أعداد المقاتلين العرب ضمن صفوف «قوّات سوريا الديمقراطية»)؛ ثمّ، في المقام الثاني، الاستمرار أكثر في منع تركيا، بوصفها قوّة إقليمية مسلمة (وسنّية، كما تجب الإشارة) من قتال «داعش»، على الأقلّ من أجل تأمين حدودها وحماية شعبها من سلسلة العمليات الإرهابية الداعشية. وهكذا توجّب أن تنوّع واشنطن خياراتها، فتكفّ يد الكرد بعد منبج، وتجبرهم على الانسحاب من مناطق توسعهم غرب الفرات، وتطلق يد تركيا في جرابلس، وربما الباب قريباً، حتى إذا انتهى هذا التنويع إلى تكريس منطقة حظر جوي/ أمر واقع؛ خاصة بعد أن فرضت واشنطن ما يشبه منطقة الحظر هذه في الحسكة، ضدّ طيران النظام السوري.
الأرجح، إذن، أنّ طرازاً من تقدّم أردوغان هجومياً، وتقهقر أوباما دفاعياً، صنع المشهد الراهن في جرابلس؛ الأمر الذي لا يلغي احتمال التقاء المتقدّم والمتقهقر في منطقة وسطى، آتية، تمنح أنقرة يداً أطول في الملف السوري، بعد طول انتظار!