في مواجهة ثلاث عقائد تمييز، أين ثقافة التحرر؟ – ياسين الحاج صالح
في مواجهة ثلاث عقائد تمييز، أين ثقافة التحرر؟ – ياسين الحاج صالح
كان ظاهرا قبل الثورة السورية، لكن ظهر بقوة أكبر بعدها، أن ما يمكن تسميته بالتيار الحداثي، معرفا بالدعوة إلى الحداثة، وبقطاع مجتمعي ينسب نفسه إلى هذه الفكرة ومشتقاتها، وبالثقافة «التنويرية» «العقلانية» التي ينتجها هذا التيار، وبانحيازاته السياسية إلى «الدولة»، (هذا التيار) خلو من كمون تحرري أصيل. لا يجد المتابع عند ممثلي هذا التيار الثقافيين التزاما بالعدالة أو بالحرية كمبدأ، أو حضورا مطردا لشواغل قيمية، أو التفاتا إلى حال المضطهدين المحرومين من الناس، أو تضامنا مع مكافحين ضد الطغيان. هذا التيار معادٍ جدا للإسلاميين، ويمكن لهذا أن يكون مفهوما جدا، وحتى مبررا، لكن الحداثيين لا يُكنّون ودا لأي قوى معارضة داخلية، واعتراضهم على الإسلامين ذاتهم قلما يستند إلى قواعد مطردة عادلة. ويميل عموم أعلام التيار إلى عبادة الدولة القائمة كمتراس للحداثة، ولا يكادون يتكتمون على رغبتهم في تقييد العامة والتعامل معهم بقسوة. وحين لا يكون تيار الحداثيين مواليا لمراكز القوة في العالم، فإن انتقاداته لها ليست تحررية بدورها، ويغلب أن يكون محركها ما يعرض من توترات بين نظم الطغيان المحلية، وبين مراكز السيطرة العالمية
كان ظاهرا أيضا أن لا طاقة تحررية عند تيار الإسلاميين، وظهر بعد الثورات استعداد فاشي قوي. أتاح «الإسلام السياسي» لقطاع من الجمهور امتلاك السياسة، الكلام والتجمع والاحتجاج، لكنه في اللحظة نفسها كان يجردهم منها بإحتوائهم ضمن هياكل للسلطة تسلبهم الكلام الشخصي، وتحظر عليهم الحق في التجمع والاحتجاج في الفضاء العام. هذا فضلا عن أن توسل الدين لامتلاك السياسة يؤول إلى سياسة طائفية، تناسب النخب الإسلامية العليا، بينما تحتفظ بالمواقع الدنيا نفسها لمن يشغلون المواقع الدنيا اليوم. السلفيون طائفيون مبدئيا وقتاليا، والإخوان طائفيون بنيويا عبر تعريفهم لأنفسهم ولـ»الأمة». ولا يكاد ينفصل المثقفون الإسلاميون في عمومهم عن المنظور التاريخي التطبيقي (تطبيق الشريعة، الالتزام بثوابت الأمة…)، المتوافق مع تصور مغلق للتاريخ، والمفضي حصرا إلى الطغيان. ظلوا مقصوصي الأجنحة، لا يستطيعون الطيران بعيدا عن التيار الإسلامي الرئيس، وهو محافظ اجتماعيا وفكريا ويتواتر أن يكون ظلاميا، ومتسلط سياسيا ويتواتر أن يكون فاشيا
ويظهر التيار الممانع، وهو مزيج من قوميين عرب ومن شيوعيين، عقما فكريا وافتقارا إلى الحس الاجتماعي والإنساني ومبادئ العدالة. وليس بين دعاة هذا التيار السوريين من ينخرطون في صراعات مجتمعاتهم ويقفون إلى جانب شعوبهم، لا بإيديهم ولا بألسنتهم. أما قلوبهم فإلى جانب قتلة من أمثال بشار الأسد وحسن نصر الله وخامنئي وبوتين. وبينما يعطي إيديولوجيو الممانعة الانطباع بأنهم مناهضون للامبريالية في العالم، لا يكاد المتابع يستطيع ضرب مثال واحد على انخراط شخصي في أي صراع، لا محليا ولا في العالم. هذا فوق عزل هذا الصراع الافتراضي عن حياة عموم السكان وجهودهم للإمساك بحياتهم. منظور الممانعين بالذات، وهو متمركز حول الدولة والسياسة العليا، يحول دون رؤية السكان في حياتهم اليومية ومشاركتهم صراعهم، بل يتوافق مع العداء للمبادرات الاجتماعية التحتية القليلة، المتضامنة مع شاغلي المواقع الدنيا في المجتمع
عدا عن كون الحداثية إيديولوجية غير حساسة تكوينيا للمسائل الاجتماعية والسياسية، يسجل دعاتها تنازلا متواترا لحداثة الأشياء والأجهزة والنواتج على حساب حداثة العلاقات والحقوق والإنتاج، المادي والرمزي، فإنهم في سلوكهم الخاص والعام قلما يمثلون نموذجا إنسانيا عاما يمكن الاقتداء به. ليس فقط لا صراع في إيديولوجيتهم، لا صراع في سيرهم وفي شخصياتهم أيضا. مثالهم العام تجريدي، مقترن بضمور متواتر في الحس الإنساني والقدرة على التضامن. والممانعون يمارسون نضالا اسميا ضد الامبريالية، لا محتوى اجتماعيا وثقافيا وحقوقيا تحرريا له، وكدولتيين راسخين لا يسعد قلوبهم شيء غير أن تعترف الامبريالية بالنظم والمنظمات التي ينحاوزن لها. ولا يتطلع الإسلاميون إلى ما يتجاوز الاستيلاء على الدولة وفرض صبغتهم ورموزهم ولغتهم عليها. قضايا الحقوق والعدالة والحريات لا مكان لها في منظوراتهم، ولا حتى لعموم المسلمين الذين ينتحلون التكلم باسمهم. داعش ليست غير ثمرة قصوى لعقيدة أن الإسلام دين ودولة التي يجمع عليها الإسلاميون، وهي عقيدة يراد منها إبراز شن الدولة، إذ ليس في تقرير أن الإسلام دين ما يدفع إلى قول
وإلى ما سبق، لم ينقض وقت كانت المسؤولية الاجتماعية للمثقف أشد انحدارا، والمثقف أكثر ابتعادا عن عموم السكان، في السياسة وفي المعرفة وفي نمط الحياة. واقع القطيعة هذا يتكامل مع ارتفاع الفوارق بين أصحاب الامتيازات الاجتماعية والسياسية وبين العامة المحرومة إلى مرتبة توليد العنصرية، وإلى ترويج العقائد التي تبرر العنصرية، باسم الحداثة أو الإسلام، أو «حقوق الأقليات». الثقافة لم تكد تقل شيئا عن صعود العنصرية، هذا حين لم تروج له وتبرره. لم تقل شيئا عن الجذور الاجتماعية والثقافية للقتل واسع النطاق، في سوريا بخاصة، لكن أيضا في مصر، للقطاعات الأدنى حماية من السكان. هذا حين لم تباركه أيضا
ولم ينجح في التشكل تيار ديمقراطي، رغم أنه كان لمنسوبين إليه ومحسوبين عليه الدور الأكبر في إنقاذ بعض كرامة الثقافة والسياسة في المجال العربي طوال ثلاثة عقود قبل الثورات. وتتكثف مشكلات الديمقراطيين في «عجمة» مدرك الديمقراطية، دون أن تتولد عنه. فخلوِّ هذه الصيغة المعرّبة من إحالة جلية في الذهن إلى «الشعب» والسيادة الشعبية، تترك المفهوم عائم الدلالة، يحيل بصورة ما إلى الدولة والحكم، وتحضر منه الإجراءات الخاصة بالانتخابات والتصويت. وهو ما يضعف أيضا الرد على نقد الشعبوية الحداثوي الذي لم يستبق شيئا من الشعب في رفضه النخبوي للشعبوية. ليست المفاهيم محكومة بأصولها اللغوية، لكن امتلاك مفهوم الديمقراطية يحتاج إلى شغل فكري أساسي، يحرره من أصوله، ويفتحه على تجاربنا المعاصرة في الاحتجاج والمقاومة والتنظيم. أهم منابع ضعف الديمقراطيين في تصوري، عدا ما يتعرضون له من قمع، هو أنهم لا ينتجون معرفة بالمجتمع والسياسة والدولة، تؤسس لتيار مستقل. يحيل الحداثيون إلى «الغرب» ومثاله، والإسلاميون إلى «الإسلام»، ويمتلك الممانعون الدولة، فماذا لدى الديمقراطيين؟ الإخلاص الذاتي لا يكفي. وهو بالغ الضعف فوق ذلك، على ما أظهرت نحو أربع سنوات من الثورة
في المحصلة، قد تكون أوضاعنا السياسية اليوم بالغة القسوة، إلا أن أوضاعنا الثقافية أشد قسوة بعد. ليس أن ما ينتج اليوم من أدب وفن وفكر لا قيمة لها، بل لعل بعضه من أرفع ما أنتج خلال قرن ونصف، لكنه أكثر من أي وقت مضى منفصل عن مشروع تحرري
ويرتبط الفراغ التحرري في مجالنا بمناخ غربي يبدو خانقا بدوره، خلو بقدر كبير من ثقافة تحرر وحركات تحررية. الديمقراطية في أزمة، ومضمونها الاجتماعي يتآكل. والتيار الرئيس من اليسار الغربي لا يبدو أنه أقل سوءا من اليمين: ممانع وسلبي، متعجرف، مركزي غربي، عقيم فكريا، لا يفعل شيئا، ولا يكاد يعرف شيئا خارج الغرب. الحال ليست كذلك في كل مكان، لكن العالم مفتقر بقوة إلى قوى تجدد وتحرر عابرة للدول والثقافات
وإذ تطرح الثورة، وما تعرض له البلد والمجتمع من تحطم، تحديات فكرية كبيرة، وتجهز على إشكاليات وأفكار وتؤسس لإشكاليات وأفكار، فإن المنطلق لتيار تحرري جديد يبدأ من إدراك وضع الفراغ الحالي: فساد الحداثية، وكذب الممانعة، وانحطاط الإسلامية، وانغلاق أفق العالم المعاصر. وبينما يوجب انتشار السوريين في العالم أن يطور تفكيرنا بعدا عالميا، وبينما تتوافق محصلة فعل القوى العالمية مع تسليم السوريين للقاتل الذي ثاروا ضده، فإن التحرر السوري يظهر اليوم كمسألة تحرر عالمي، مشروط به ومؤثر فيه
Source : http://www.alquds.co.uk/?p=299560