ليل الانحطاط الطويل – الياس خوري
أشعر بالأسى، وهذا ليس بسبب ليل الانحطاط الذي نعيشه في بلادنا المنكوبة فقط، بل لأنني اكتشفت فجأة أنني لا أستطيع ممارسة هوايتي في اللجوء إلى الشعر العربي الكلاسيكي كلما شعرت بأن الأفق ينسد أمامي، فأداوي عجزي عن الكلام بالشعر، مستحضراً ايقاعات المعاني التي صاغها الشعراء، كي استعيد لغتي.
كنت أناقش مع أحد الأصدقاء تداعيات اللحظة الاجرامية التي ادخلتنا إليها تفجيرات بلدة القاع اللبنانية، وكان صديقي يحاول أن يشرح لي أنه غير مقتنع بجميع الافتراضات التي راجت حول العملية. قال إنه يشك في أن هدف عملية انتحاريي دولة البغدادي كان استخدام القاع معبراً للقيام بعمليات ضد الجيش اللبناني، أو للتسلل إلى المناطق الشيعية، أو لتهجير المسيحيين في البقاع الشمالي… وقدم افتراضاً بدا لي غريباً ومخيفاً في آن معاً.
والحقيقة انني لم أحاول تحليل المسألة، فأنا صرت متيقناً من عجز أدواتنا التحليلية عن فهم ما يجري. نستطيع بالطبع العودة إلى حكاية التحالف بين الاستخبارات الامريكية والجيش الباكستاني والمال السعودي في نشوء ظاهرة «المجاهدين الأفغان»، بوصفها مفصلاً في الحرب الباردة. كما أستطيع العودة إلى التحذيرات الرؤيوية التي قدمها المفكر الباكستاني الكبير اقبال أحمد حول حمق التحالف الامريكي مع الاسلام الجهادي التكفيري الذي مهدت له الظاهرة الافغانية، ونبوءته بأن «القاعدة» لا بد أن تنقلب على أسيادها. كما أستطيع الاشارة إلى الاستبداد العربي المتوحش، الذي ساعد على انتشار الظاهرة عبر القمع والافقار والتهميش وتغول الاستبداد الرأسمالي، غير أن جميع هذه التحليلات، رغم صحتها، لم تعد تكفي لفهم هذه الظاهرة المرعبة التي تشكل اليوم الوجه الآخر للاستبداد في القدرة على تحطيم المجتمعات العربية وتفتيتها وتدمير قيمها.
لذلك لم أكن معنياً بتحليلات صديقي الذي لاحظ شرودي، وضجري من التحليل، لأن ما كان يشغلني هو شعوري بالقرف والاشمئزاز من مناخ الهستيريا العنصرية التي ضربت لبنان ضد اللاجئين السوريين. شيء يدعو إلى الخجل، وشعور بالخوف من ضعف الخائفين وقدرتهم على القيام بأعمال منافية لأبسط القيم الأخلاقية، وكشفهم لوحشية الإنسان وقدرته على «التدعوش» في أي لحظة.
أردت أن أقول لصديقي انني أشعر بأنني لاجئ سوري، وان ما يحدد هويتي الانسانية اليوم هو التماهي مع الشعب السوري الذي يتعرض لأكبر نكبة عرفتها العرب في زمننا، وأن شرط مقاومة التكفيريين والمستبدين ومن لفّ لفّهم، هو قدرتنا على حماية القيم الانسانية، لأنه من دون هذه القيم نصير قتلة ومجرمين مثلهم.
حين لاحظ صديقي انني اريد أن احكي، سرق مني الكلام، وانتقل من تحليل الافتراضات الشائعة إلى تقديم افتراضه. قال إن ما حصل في القاع كان استعراضاً دموياً هدفه الوحيد هو الاستعراض وبث الرعب في القلوب. «اسمع جيداً»، قال: «هدف قادة الانتحاريين كان الانتحار. قالت لنا دولة البغدادي انها تستطيع أن تأمر تسعة شبان بتفجير أنفسهم في بلدة صغيرة وعلى دفعتين وخلال يوم واحد. مشهد يفوق الخيال، تسعة شبان يمشون بين الناس في الشوارع وينفجرون ويُقتلون ويَقتلون. مشهد لم يخطر في بال أي مخرج هوليودي. الهدف من المشهد هو المشهد نفسه، الموت للموت، كي يصير الموت بلا معنى وعندها تصير الحياة بلا معنى أيضاً، وفي هذه الوضعية يستطيع التكفيريون فرض معانيهم على المجتمع، وترسيخ مرحلة فقه التوحش، التي تمهد لقيام دولتهم».
وهنا قارن صديقي بين زمننا وزمن دولة الحشاشين، ونجاح حسن الصباح في بث الرعب في خصومه من خلال تجنيد مئات الانتحاريين، وكيف كان هذا الزعيم لا يَعِد أنصاره بالجنة فقط بل كان يجعلهم يقومون بزيارتها من خلال استخدام المخدرات…
«إلى أين تريد أن تصل»؟ سألته.
هنا اشعل الرجل سيجارة وتنهد بعمق وقال: «ليل، انه ليل طويل».
هنا انتهى الكلام، وأحسست بالعجز عن صوغ كلمات مناسبة. استعدتُ بيتا شعرياً للملك الضليل، سيد شعراء الجاهلية وقائدهم إلى مملكة المعاني، ورأيتني أردد هامساً بيت امرئ القيس عن الليل:
ألا ايها الليلُ الطويلُ ألا انجلي/ بصُبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ»
لكنني، وهنا مصدر الأسى، اكتشفت أنني لست مؤهلاً ولا يحق لي انشاد هذا البيت الشعري، وذلك يعود إلى أسباب شتى، اهمها سببان:
الأول هو أن الشاعر ما كان في استطاعته أن يطلب من الليل الطويل الذي بدت نجومه ثابتة كأنها رُبطت «بأمراس كتّان إلى صمّ جندل»، لو لم يكن فارساً، أي لو لم يكن سيداً على حصانه. فامرؤ القيس لم يستطع أن يصف الفرس بعبقرية أذهلت الموتى والأحياء لو لم يكن فارساً يعرف أن حصانه في انتظاره. ونحن اليوم، نفتقد الفرس والفارس والفروسية. الآن فهمت عشق محمود درويش للحصان في قصائده الأخيرة وفهمت لماذا صرخ شاعر فلسطين والعرب باحثاً عن حصانه، ثم سقط مضرجاً بدم الحصان: «سقط الحصان مُضرجاً بقصيدتي/ وأنا سقطتُ مضرجاً بدم الحصان».
والثاني يرتبط بتعلقنا بالاستعارة، وتحويل أغلب كلامنا إلى استعارات. حين تكلم صديقي عن ليلنا، فإنه كان يستعير صفة العتمة كي يتكلم عن الانحطاط. بدل أن يقول: انحطاط طويل قال ليل طويل. اما الشاعر فتكلم بشكل واضح مباشر: «وليل كموج البحر أرخى سدوله/عليّ بأنواع الهموم ليبتلي» شبّه الليل بالموج لأنه كان يصف ليلاً حقيقياً ولم يستعر صفة العتمة كي يقول بها شيئاً آخر. القصيدة الجاهلية هي موسيقى الوصف، وصف حسي وملموس، يلتقط التفاصيل ويموسق بها الحياة، ولا يلجأ إلى الاستعارة الا نادراً.
لم أستطع استخدام كلام الشاعر من أجل استعادة قدرتي على الكلام، فأنا أشعر أن صديقي كان على حق هذا ليل طويل فعلاً، وعتمته نابعة من عتمة كلماتنا التي لا تقول شيئاً حين تقول.
ورغم أنني معجب باستعارات ابي تمام والمحدثين العباسيين الذين أعادوا صوغ شعرية المعاني، غير أنني خفت من علاقة الاستعارة بالواقع في هذا الزمن المستعار الذي نعيشه. جماليات الاستعارة هي في قدرتها على الاشارة إلى الأشياء من دون التطابق معها.
أما حين تنطبق الاستعارة على المُستعار منه، ولا نعود قادرين على التمييز بين الأشياء وظلالها، فهذا يعني أمراً واحداً له اسم واحد هو ليل الانحطاط الطويل.