آثار الدمار ودمار الآثار سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 8 août 2014

في ثمانينيات القرن المنصرم، دمّرت الحكومة السورية جزءاً مهمّاً من وسط مدينة حلب الأثري، في إطار مشروعٍ أشرف عليه محافظون ورؤساء بلدية غريبون عن المدينة، وعن نسيجها الاجتماعي والحضاري. وكانت الحجة المطروحة إقامة مراكز تجارية حديثة، ومبانٍ إدارية تستوعب حجم التطوّر السكاني. وساهمت الأجهزة الأمنية في عملية الهدم هذه، بالضغط على مَن وقف في وجه هذا التدمير المنهجي الذي أزال معالم تعود إلى قرون غابرة، من أهمها جزء كبير من سور المدينة، كما الدور الأثرية والخانات والحمامات. وقد وصل الأمر ببعض هذه الأجهزة أن اخترعت اتهامات بالعمالة لأجهزة استخبارات أجنبية ضد مَن حاول إيقاف تدمير البلدوزرات لجزء من ذاكرة أقدم مدينة في العالم.

بالتوازي، جرى تدمير عدة حقب أثرية في قلعة حلب، لإقامة مسرحٍ إسمنتي لحفلات التبجيل والتمجيد. القلعة الأيوبية نفسها عرفت تركيب مكيّفات وبناء مراحيض حديثة في قاعة العرش، لضرورة إراحة مسؤولي العاصمة وضيوفهم في أثناء زيارة المكان، أو حضور الفعاليات الرسمية التي لم يجدوا لها مكاناً سوى هذا الموقع الأثري المهم. عمليات التخريب تلك، لا يمكن أن تُفهم إلا بالنظر إليها جزءاً من استراتيجية سياسية/ أمنية امتدّت عقوداً، وعزلت الحلبيين عن إدارة شؤونهم الحضرية، أو طوّعت جزءاً فاسداً من نُخَبهم المحلية. وقد جاء ذلك، أيضاً، في إطار عملية انتقام من تمرّد المدينة التاريخي ضد سلطة المركز، والذي تجسّد عنفياً في مواجهات مسلحة في الفترة نفسها تقريباً.

كانت العلاقة مع التراث والآثار، إبّان الحقبة الماضية في سورية، محصورة في شقين، ديني (رافض أو مُقدّس)، أو مادي. وجرى تهميش البعد الثقافي الذي يمكن أن يطوّر الشعور بالمواطَنة لدى « الرعية ». وكذلك، ارتبطت زيارات المواقع الأثرية إما بتقليد النزهة الأسبوعية، وما يحمله من تحضيرات غذائية ومخلّفات إنسانية، أو بأن تكون في إطار الرحلات المدرسية الإجبارية، والتي تتحاشى أن يكون غذاؤها الفكري مضمون المكان وتاريخه، بل هي فرصة لإدارة تربوية فاسدة لصرف المخصصات، والتخلّص من مسؤولية التلاميذ ساعات يملؤونها لعباً وتريّضاً، محطمين ما تيسّر، ومخلّفين وراءهم « آثارهم » القذرة.

القيمة المادية للآثار لم تكن تخفى على أهل الحل والعقد في السلطة السياسية والأمنية، ومَن لفّ لفّهم من تجار الفرصة، فانتشرت عمليات التنقيب العشوائي، مع سرقة اللُّقى التي يخفّ وزنها، وتتعاظم أثمانها، ليجري تهريبها إلى أسواق عالمية دائمة الطلب. ومن جهة أخرى، ارتبطت عمليات الترميم الكبرى، دائماً، بآليات الفساد المنهجي، وأعطت غالباً، إلا في حالات استثنائية، نتائج كارثية حوّلت من خلالها مواقع، كالجامع الأموي في دمشق، إلى مجسّم مستقى من حدائق ديزني، أكثر منه ارتباطاً بتاريخ هذا الصرح العابر للأديان. ونتيجة لعدة عوامل، منها غياب عملية تنمية حقيقية، واتباع سياسات اقتصادية فاشلة، ووضع خطط زراعية مُسيئة، أضحت علاقة المجتمع المحلي بالمواقع الأثرية مقتصرة على محاولة الاستفادة الاقتصادية من عمليات التنقيب، أو من عملية الاستثمار السياحي للمواقع.

ولم تجرِ أيّة عملية توعية بأهمية هذه المواقع، وارتباطها بعملية بناء الوعي المواطني والانتماء الحضاري، إلا نادراً. وأصبح الموقع الأثري، أحياناً، عبئاً على أهل المنطقة، إنْ جرى منعهم من فلاحة الأرض المحيطة به، أو جرت بحقّهم ممارساتٌ تعسفيةٌ بحجة حماية الآثار. فقد تشكّلت علاقة رفضية مع ما تمثّله هذه المواقع المكوّنة من « كتلات حجرية أو حفر ترابية » لجيل كامل من الشعب السوري، عاش في حالة تصحّر ثقافي.

وأضحى الانتماء إلى المكان مرتبطاً أكثر بالقائمين على المكان من زعماء محليين أو أمنيين. وأضحت العلاقة مع الآثار مجرّد تنازع بين المنفعة المباشرة قصيرة الأمد، أو السعي إلى تدمير هذه « العوائق » أمام ما ساد الاعتقاد بأنه مصالحهم اليومية. إضافة إلى وجود اعتقادات دينية، نمت في ظل نقص الوعي وضحالة التوعية واضمحلال الثقافة، تُشير إلى أن بعض المواقع الأثرية هي من صنع « المارقين »، ويجب التخلّص منها. أو أنها تحتوي على تماثيل يعتبرها ظلاميو الفكر « أصناماً »، وجب تدميرها.

بعد سحق الانتفاضة السلمية في حلب، عسكرياً، وانطلاق معركتها العسكرية، تحصّن المقاتلون، القادمون من خلفية إشكالية مع الآثار ورمزيّتها، في أحيائها القديمة، شدّد زعماؤهم على أن البشر أهم من الحجر، فقُتل البشر وانهار الحجر. انهارت مئذنة الجامع الأموي، التي لا يمكن النظر إلى رسمٍ أو صورة لهذه المدينة من دون الوقوع عليها. احترقت الأسواق بما تحتويه من خانات ودور وحمامات. واختفت معالم مدينة تحاشى تدميرها كل غزاتها، منذ المغول ومروراً بالعثمانيين، وصولاً إلى الفرنسيين.

تدفع مدينة حلب ثمناً باهظاً في نسيجها المادي، بعدما انهار نسيجها المجتمعي. تدمّرها، الآن، نتائج حقبة سياسية/ ثقافية ظلامية، أسّست لنقص وعي مجتمعي جارف. فمن ذاك المحافظ الذي أراد تدمير قلعتها لبناء مركز تجاري، إلى هذا القائد العسكري « المعارض » الذي احتفى في شريط مصور بتدمير صرحٍ أثري، نجحت الآلة القمعية المستمرة في تدمير الإنسان والعقل والوعي والانتماء إلى وطن

http://www.alaraby.co.uk/opinion/01b04977-5ee2-4c3a-b057-e8fb317a7b78