الأب باولو.. ضمير المتكلم -عيسى الشعيبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 10 juillet 2012

لم يكن الراهب الايطالي الأب باولو ديلو المقيم منذ ثلاثين عاماً في دير مار موسى بالقرب من مدينة حمص، معروفاً على نطاق واسع، ولم يسمع أحد باسمه من خارج الدائرة الصغيرة التي يقع فيها ذلك الدير القديم المهجور الذي رممه وجعل منه بيتاً للتسامح، ومقصداً للتبادل الثقافي، وذلك حتى عام مضى، حين انفجرت الثورة السورية واقتحمت كل مناحي الحياة في البلد العربي الأكثر تنوعاً على أصعدة الطوائف والمذاهب والإثنيات، فحضر هذا الراهب بكله وكلكله في معمعانها الواسع، وصار علماً من أعلامها الخفاقة.لم يتورط الأب باولو بما تورط به بعض رجال الكنيسة، ممن تبنوا رواية الأسد عن الجماعات الإرهابية، ودافعوا عن استبداده من منطلق أنه حامي حمى الأقليات، كما أنه لم يلذ بالصمت كغيره درءاً لشر الشبيحة، بل انحاز إلى نداء الحرية والكرامة الذي هتفت به حناجر الشباب والشابات، فاستحق بذلك غضبة أجهزة الأمن التي ضاقت به ذرعاً، ثم أبعدته مؤخراً عن المكان الذي عاش فيه ورغب أن يدفن في ثراه، تماماً كما يود كل إنسان أن يتوسد تراب مسقط رأسه.

وبهذا، فنحن أمام نموذج إنساني فريد، يصعب الطعن في شهادته، أو تأويل دوافعه ونقاء مقاصده، على نحو ما قد يتعرض له معارض في الخارج من اتهامات جاهزة، أو منشق عن جيش النظام طغت عليه طائفيته، أو أي من شهود العيان والأفراد والجماعات التي لا حصر لها، المنخرطة في ما بات يسمى على رؤوس الأشهاد بحرب تحرير شعبية ضد أول جيش في التاريخ يهاجم شعبه بكل هذه الضراوة، دفاعاً عن حكم دكتاتور أقام أكبر جمهورية خوف وصمت وإذلال. وعليه، فان الأب باولو الذي وقف بين أبناء حمص الكبار في مؤتمر المعارضة الأخير في القاهرة، إلى جانب هيثم المالح وبرهان غليون ونجاتي طيارة وخالد أبو صلاح، داعين إلى إنقاذ المدينة المنكوبة من خطر ماحق، كان يتحدث بضمير المتكلم، أو قل المتكلم النبيل، حديث من رأى لا من سمع، في وصف ما يتهدد الحماصنة خصوصاً، والسوريين عموماً، من هول آلة قمع تعمل تحت شعار « الأسد أو لا أحد »، لإعادة ترميم جمهورية الرعب والإسكات من جديد.

في مقابلة جرت معه مؤخراً من منفاه، يلتقط هذا المواطن الإيطالي السوري العربي بامتياز، جذور هذا العنف الوحشي وهذه الانتهاكات الفظة للمحرمات، بما في ذلك التمثيل بجثث الأطفال واغتصاب النساء، قائلاً إنها كامنة في ثقافة الاستبداد التي امتدت لأربعين سنة، وقامت منذ البداية على الكذب والعنف والتعذيب، الأمر الذي أنتج إنساناً « شوزيفرينياً » تزدوج لديه الصورة التي يراها عن نفسه داخل بيته ومرآة ذاته، وتلك التي يمارسها في الخارج على نحو متماهٍ مع تقاليد منظومة السلطة وإكراهاتها.

وفي رده على سؤال موجع لضمير المتكلم وضمير الغائب معاً، عن منبع هذه الكراهية التي تدفع بالقاتل إلى النظر في عيني طفل، ثم ذبحه، يجيب الأب باولو أنه عندما يريد شخص أن يضرب آخر، فان أول ما يفعله المعتدي هو أن يجرد ضحيته من إنسانيتها، ويخرج المفترى عليه من آدميته بشتمه: يا حيوان أو يا كلب، أي أنه يقتلعه من دائرة الجنس البشري، كي يبرر لنفسه سحق كائن صار في المخيلة مجرد بهيمة عجماء.والحق، أن المقابلة المطولة المنشورة في « الحياة » اللندنية أوائل هذا الشهر، غنية بالأفكار والحكم والنبوءات لهذا القس الناسك في ديره بجبال القلمون حتى الأمس القريب، وددت أن أقطف من أفكاره فكرة الشاهد عما رأى بأم العين، ومنها على وجه الخصوص أن لا وجود للقاعدة في قلب ثورة الكرامة، ورغبت في أن أغرف من معين حكمه حكمة أن لكل إنسان دورا في إسناد هذه الثورة، مهما تواضع هذا الدور، وأن أصادق أخيراً على نبوءته بأن الثورة التي ضحى من أجلها الآلاف ثورة منتصرة بدون أدنى ريب.

http://www.alghad.com/index.php/afkar_wamawaqef2/article/30009/%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%A7%D9%88%D9%84%D9%88-%D8%B6%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D9%83%D9%84%D9%85.html