المشهد السوري: مجلس الأمن «يتحاشى عار الصمت» – سلاّم الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 5 mars 2014

سلاح التجويع.. تكتيك حربي

بعد أكثر من أسبوعين على بدء مداولات ماراثونية حفِلت بالمماحكات السياسية، والمساومات المرتبطة بأوزان قوى إقليمية وأخرى دولية، وبتأثيرات ساحات مواجهات قريبة أو بعيدة عن المشهد السوري، اعتمد مجلس الأمن الدولي، وبالإجماع، القرار رقم 2139 والذي يدعو «كافة لأطراف» إلى رفع الحصار عن المدن ووقف الهجمات والغارات بالبراميل المتفجرة وتسهيل دخول قوافل المساعدات الطبية والغذائية عبر جميع حدود الجمهورية وعبر جبهات القتال المنتشرة طولا وعرضا.
سوريون يتلقون مساعدات غذائية وطبية من عمال الهلال الأحمر السوري "تحت تحت إشراف الأمم المتحدة" لدى وصولهم إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام الحاكم في مدينة حمص السورية (7 فبراير - 2014)سوريون يتلقون مساعدات غذائية وطبية من عمال الهلال الأحمر السوري “تحت تحت إشراف الأمم المتحدة” لدى وصولهم إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام الحاكم في مدينة حمص السورية (7 فبراير – 2014)

أبدت جميع الدول المعنية ارتياحها لصدور القرار رقم 2139 من دون أن يعترضه ميلٌ روسي مزمن لاستخدام حق النقض، بعدما قامت موسكو بمنع صدور قرارات تدعو إلى وقف المقتلة مرات عدّة. واستعرض مندوبو عديد من الدول الأعضاء مهاراتهم في البوح عن مساهمتهم في الإعداد وفي التعديل وفي التمرير. ووصل الأمر إلى أن تُرجم العجز الأميركي عن اختراع مخرج للمقتلة السورية بأن يبالغ جون كيري في تفاؤله ويعد ما حصل في نيويورك «نقطة تحوّل في الصراع». وبالتالي، وفي ترجمة غير بريئة للعبارات المستعملة في تصريحات هذا النوع من المسؤولين، فالإدارة الأميركية، والتي تعد سياستها الخارجية الأكثر ترددا وعجزا في تاريخ القارة الجديدة، ترى في هذا القرار «الرمزي» مخرجا نسبيا من الإحراج المقيت الذي اختارت الانغماس فيه.

القرار”المعجزة”!

من خلال هذا القرار”المعجزة” الذي أفرح صانعيه بشكل يدعو للاستغراب، بدا أن الروس قد استطاعوا أن يجعلوا منه أداة إدانةٍ لجميع الأطراف «المتحاربة» على الساحة السورية. وقد اعتمدوا في ذلك على حنكتهم الدبلوماسية السينيكية التي ما فتئوا يترجمونها قولا وفعلا من خلال إدارتهم «الناجحة» للملف السوري مقابل العجز المرضي لمحاوريهم من مختلف المشارب. إضافة إلى أنهم نجحوا في عدم تضمينه لأي بند إلزامي واضح عدا القول بأنه، وفي حالة عدم احترام بنود القرار، «ستتخذ إجراءات إضافية». وبالطبع، ستحتاج هذه الإجراءات الإضافية، أولا، إلى إقرارٍ أممي بعدم التزام الأطراف أو طرف منها بالتنفيذ، وما يترتب على ذلك من وجوب إيجاد آليات أممية لمراقبة حسن التنفيذ وانتظار صدور تقارير توصيفية يُبدعها تكنوقراط المنظمات العاملة في أوقات الدوام الرسمي. وثانيا، بالعودة إلى عقد اجتماعات طويلة لمجلس الأمن والتصدي لنفس الصعوبات المركّبة وقيام الروس بطرح جديد من العقبات وتطوير سياسة المماحكات.

ومن المثير، أن جزءا لا بأس به من الإعلام الغربي عموما والأميركي خصوصا، بدأ في المبالغة بامتداح المنظمة الدولية وآلياتها. ورأى أن العمل الدؤوب يُمكن له أن يُفضي إلى نتائج مُرضية لكل الأطراف. متناسين أنه سبق وأن طالب مجلس الأمن في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي بدخولٍ آمن للمساعدات الإنسانية، من دون أية جدوى عملية. وانبرى بعض فقهاء السياسة من موالين ومن معارضين، إلى الاجتهاد في تفسير بنوده حمّالة الأوجه، متغاضين عن الشياطين التي تملأ زوايا تفاصيله المركّبة.

القرار يرى، وعن حق، أن تجويع المدنيين هو «تكتيك حربي» تحظره القوانين الإنسانية الدولية. ويبدو أن سلاح التجويع الهادف إلى الإخضاع مقابل السماح بالحياة، ليس جديدا على «التكتيكات» الحربية منذ القدم لدى رعاة الموت. ففي العصر الحديث، حفلت سير الحربين العالميتين الأولى والثانية بقصص الحصارات التي لجأت إلى سياسة التجويع سعيا إلى دحر «الأعداء» في الطرف الآخر. وفي قريبٍ ليس ببعيد، تمّ استخدام هذا السلاح، مرفقا بمنع الاستطباب أو العلاج، في مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك. ويعرف السوريون واللبنانيون تجربة سلاح التجويع من خلال ملحمة مخيم تل الزعتر في بيروت والذي حوصر سنة 1976 من قبل بعض الميليشيات اليمينية اللبنانية بمساعدة من القوات السورية الداخلة حديثا إلى لبنان حينذاك. ومقابل هذا الأسلوب الحربي المقيت، لم تجد المنظومة الدولية بكافة مؤسساتها الآليات المناسبة لمواجهة هذا السلاح الفتّاك، والذي تم اللجوء إليه غالبا من قبل قوى خارجية محتلة، ونادرا من قبل قوى حكومية بحق أعضاء في المجتمع الوطني القائم.

العنف المسلح

ولقد توضّح منذ بدء الحركات الاحتجاجية، وقبل أن تتحوّل إلى العنف المسلح، بأن سلاح التجويع ذو فاعلية كبرى لا يمكن أن يجاريها إلا العنف الجنسي الممنهج. وفي موازاة الاعتقالات والتعذيب والقتل المباشر، فإن للتجويع أثرا نفسيا واسعا وجماعيا. فكما أنه، وفي المطلق، يسعى الأهل في سبيل إطعام فلذات أكبادهم، فينحتون الصخر عملا وشقاءً في مجتمعات غير عادلة سيطر الفساد على إدارتها منذ خضوعها للإدارة الأمنوقراطية، فإن الأمر يغدو أكثر صعوبة وإيلاما عندما يشعر الإنسان أنه مجوّع كما أولاده لمطالبته بتحسين ظروفه السياسية والاقتصادية، ولمحاولته نوال ما حرم منه لعقود من كرامة ومن حرية.
ومن مؤشّرات التبني المبكر لسياسة التجويع كأداة عقاب جماعي، تعرّض عدد كبير من الناشطين «السلميين» في مراحل عدة من المقتلة السورية للاعتقال أو حتى للاختفاء القسري لمجرد قيامهم، أو الشك بقيامهم، بتوصيل المساعدات الغذائية أو الطبية إلى أماكن التوتر كما في غوطة دمشق أو في مخيم اليرموك الفلسطيني. وفي المنطق الأمنوقراطي، تُعتبر المساعدة الغذائية أو الطبية، إضافة إلى نشر الوعي المدني، أقسى أثرا على السلطة القائمة من العمل المسلح بحد ذاته. فهذا النوع من الدعم المدني يُساعد على استمرار الحياة، واستمرار الحياة يُساعد على استمرار المطالبة بالحقوق، واستمرار المطالبة بالحقوق لا يُساعد عملية كتم أنفاس الحريات وعودة «الاستقرار» و«الطمأنينة» للبلاد كما تتصورها السلطات القائمة.

وكم من قصة سردت عن اعتقال ذاك الذي اكتشفوا نقله لأكياس الخبز في سيارته، والتنكيل بتلك التي حملت الأدوية في حقيبتها، وكأن هؤلاء النشطاء كانوا ممن يهرّب الممنوعات الأشدّ خطورة، لأنها تحمي الحياة وتحافظ على الرمق الأخير قبل الحرية. فلم يعد من المستغرب في ضوء هذا أن يتعرّض مدنيو الحراك السوري إلى البطش أكثر من عسكرييه. وبالطبع، فالمقارنة غير جائزة بين هاتين «المهمتين»، لأن المدني يسعى في إطار عمله الإنساني المرتبط بقناعته بقضية الحرية إلى أن يساهم في تعزيز «مقاومة» المجتمع للإخضاع الممنهج والذي مورس عليه طوال عقود عبر كل الوسائل الترهيبية والترغيبية والحربية. أما المقاتل، فهو عارفٌ بما اختاره من أسلوب وله تبريراته التي منها البديهي أو منها ما هو قابل للنقاش.

ومن الطبيعي أن تُدان عملية اللجوء إلى سلاح الجوع من أي طرف استخدمت. ولا تبرير حربيا لها حتى في معارك الأعداء، فما بالنا بما يجري في أرضٍ ما زال يعتبر غالبية ساكنيها أنها وطنٌ مشترك. ولكن الإدانة الإنسانية، محليّة كانت أم خارجية، لا تستطيع أن تقف إلا عاجزة أمام اللجوء المتكرر لهذه الأساليب وأن تقف مشدوهة أمام المواقف «المتضامنة» مع هذه الأساليب والتي تصدر عن «مدنيين» أدّى إخضاعهم المبرمج و«ترويضهم» الممنهج إلى أن فقدوا كل إحساس بالثوابت المبدئية للكائنات البشرية. وتكرار الحديث عن ضرورة «اجتثاث» الحواضن الاجتماعية للجماعات المعارضة على مختلف مشاربها، يُشير إلى تفكك أخلاقي متنام تتجاوز خطورته بمراحل التفكك المجتمعي أو الانهيار الاقتصادي أو التدمير العمراني القائم على قدم وساق. فقد تعددت الحجج الوقحة المبررة للجوء إلى استخدام هذا السلاح، أي التجويع، فمن قائل إن المناطق الخاضعة للحصار تدفع ثمن ارتهانها الإرادي أو اللاإرادي لقوى مسلحة خارجة عن الشرعية، وهذا هو الخطاب الرسمي غالبا، إلى من يتحدث عن الحصار وكأنه عقوبة جماعية استحقتها المجتمعات المحاصرة لأنها شكّلت البيئة الحاضنة للمجموعات الإرهابية، وهذا خطاب يتناوله بعض مدنيي الموالاة بلا خجل ولا وجل.

ويشار أيضا، وكما ورد في القرار الأممي، إلى أن بعض القرى الموالية محاصرة من قبل بعض متمردي المعارضة في الشمال في سعي إلى استعمال نفس السلاح ولكن بفاعلية أقل بكثير لأنه يتم تزويدها بالمواد الغذائية عبر المروحيات الحربية. ومهما يكن، فإن حصارها لا يفضي إلا إلى تحميل هذه القوى مسؤولية أخلاقية وإنسانية لن تستطيع التنصّل من تبعاتها. وبالطبع، فالمقارنة ظالمة في هذه الحالة بين الطرفين ولكن القاعدة الأخلاقية هي ذاتها: إدانة حصار المدنيين للتأثير عسكريا أو سياسيا.

في مقتبل عمر الثورة السورية، تناقلت الأخبار قيام راهبات أحد الأديرة في مدينة حلب بتحضير الطعام لمئات من اللاجئين المقيمين في محيط جامع قريب. وقد جمعت هذه الحكاية الموثّقة مئات ردود الفعل من مختلف المشارب السياسية والتي أكّدت حينها على التلاحم والتآخي بين أبناء البلد الواحد بمختلف أطيافه. لم تكن هذه الرواية من الأساطير أو من أحاديث الجدّات، بل من واقع مجتمعٍ كان لم يزل يُحافظ على تضافره إنسانيا على أقل تقدير. وكل الخشية كانت في أن تمزّق الأحداث والمواجهات والعنف المتصاعد النسيج المجتمعي السوري. ويمكن القول إن ذلك وقع جزئيا من خلال عملية الاستقطاب والانزواء واللجوء إلى مفاهيم ما قبل وطنية دغدغت شعور أفرادٍ وجماعات خضعت، خلال عقود طويلة، إلى «تربية» غير وطنية عملت حثيثا وبمنهجية شيطانية على محو براعم بناء وعي المواطنة. وفي سعي دؤوب إلى تعزيز سيطرتها، قامت الحكومات المستبدة المتعاقبة بإطلاق يد التصحير الفكري معتمدةً على «جيشٍ» من مرتزقة الثقافة أو من مهادني السلطان.

مواجهة الجوع

إن مواجهة الجوع من قبل أفراد المجتمع السوري في مناطقه المحاصرة أفضت إلى أن يسمع العالم قصصا لا تصدّق، فمن أكل الأعشاب البريّة إلى أكل القطط، إلى التكاتف والتلاحم والتقاسم، إلى الضغينة والحقد والانتقام. ومهما يكن من أمر، فتجويع المدنيين، من أي جهة مورس، هو أداة إبادةٍ شاملة تسعى إلى إخضاع الآخر أو الانتقام منه، فهي بذلك تنفي وجود الآخر ككائن بشري، أو أنها بالأحرى، تنفي صفة البشرية عن مستخدميها.

حتى لو توصّل «المجتمع الدولي» المشوّه التكوين والأداء، إلى حلٍّ نهائي للمقتلة السورية، فإن آثار الدمار والتدمير ستبقى قائمة لسنوات، بل ولعقود. وربما تمكّنت جهات مانحة وسواعد أبناء البلد، أو ما تبقى منهم، في إطلاق عملية إعادة البناء المادي. بالمقابل، سيكون من الصعب للغاية أن تنطلق ورشة إعادة الإعمار النفسي والإنساني. ومآلات سياسات القهر والقتل والتجويع ستودي بجيل كامل على الأقل إلى الوقوع في محظورات اللجوء إلى الرغبة بالانتقام أو تنمية بذور الحقد تجاه من مارس هذه السياسات، وتجاه من صمت عنها ومن برّر لها.

في محاباة واضحة للدب الروسي الجريح عميقا بعد سقوط حليفه المافيوي في أوكرانيا، لجأت الدول التي صاغت مسوّدة القرار إلى تعديل أمور أساسية فيه. فهي قامت بتغيير عبارة يرد فيها بأن المجلس «يقرّر» لتصبح أقل حزما وتنصّ على أن المجلس «يطلب». وبهدف أن تكون لا إلزامية القرار واضحة، تحاشت هذه الدول الإشارة إلى الفصل السابع الذي يمنح مجلس الأمن القدرة على فرض إجراءات تصويبية أو زجرية في حالة عدم التزام أحد الأطراف المعنية بالقرار. وفي تحديد القرار مدة 30 يوما على أن يعود بعدها الأمين العام للأمم المتحدة (الذي لا ينفك عن إبداء القلق على الحالة السورية منذ ثلاث سنوات) إلى تقديم تقرير عن «حسن التنفيذ» والالتزام، فإنه يضع حياة الشعب السوري في ملعب المُقرّر الروسي الذي سيعرقل إصدار أية قرارات تضغط فعليا، ولو حتى بالكلمات، على من سيمنع من إيصال المساعدات وتنفيذ القرار. وكما قال المندوب الفرنسي في الأمم المتحدة جان أرنو، فمجلس الأمن، بإصداره هذا القرار، «يتحاشى عار الصمت» فقط.