النموذج الروسي: من « غروزني » إلى ثعالب الليل – خالد الحروب

Article  •  Publié sur Souria Houria le 20 septembre 2013

أخطر القادة هم اولئك الذين تصيبهم لوثة الشوفينية القومية، وتستبد بهم شهوة إعادة بناء الامجاد الغابرة واستحضار الماضي، باعثين في شعوبهم مشاعر الضحية والفقدان، ومستفزين فيهم غرائز الانتقام من الآخرين. هناك في تاريخ البشر والسياسة قومية حميدة وهناك قومية مدمرة، الاولى تعكس الانتماء الطبيعي والعفوي للوطن والثقافة والهوية، من دون مبالغة وانجرار باتجاه الادعاء بالتفوق الإثني والثقافي على الآخرين، ومن دون احتقار القوميات الاخرى.
القومية الحميدة تُطلق طاقات الناس الايجابية لخدمة جماعتهم ووطنهم والاعتزاز به والتنافس مع « الاوطان » الاخرى عن طريق الانجازات، وليس عن طريق التباهي بـ « نقاء الدم »، او امجاد الماضي، او عظمة التاريخ الذي أغلب مراحله تكون متخيلة او مركبة، والخيال الجامح فيها اكثر من الحقائق.
النوع الثاني من القومية، القومية المدمرة، هي تلك الشوفينية التي تختلط مع العنصرية وتنظر للذات القومية بكونها الاعلى والافضل تراتبية، وترى الآخرين وقومياتهم وأوطانهم يحتلون دوما مراتب ادنى على السلم القومي وسلم « الاجناس والإثنيات ».
كثير من الحروب الدموية التي دفعت فيها البشرية ملايين الضحايا نشبت عن جنون القوميات الإثنية أو الدينية، حيث يأتي قائد ما مهووس بجنون الافضلية وسيكولوجيا الضحية، ويريد أن يصوب التاريخ، ويضع المستقبل « على الطريق الصحيح » رغما عن كل الحقائق الموضوعية الاخرى.
كل ما يقف في وجه مشروع إعادة المجد الغابر وفي وجه تصويب التاريخ وتثبيت بوصلة المستقبل يجب أن يُحارب، ويُزاح، ويُستأصل.
من قلب الشرق الصيني والياباني، إلى قلب الغرب الاوروبي مرورا بكل جهات الارض، هناك نماذج وسيرورات قومية من المفترض ان تكون قد وفرت امثلة وتجارب تردع عالمنا من التورط في مساراتها.
في اوروبا ما زالت تجربة القومية النازية والرعب والموت الذي جلبته على القارة طازجا، لأن تلك القومية رأت في الجنس الآري العنصر النقي الاعلى والذي يجب بالبداهة ان يحكم اوروبا والعالم كله من ورائها.
كل من يعتبر عائقا وحملا ثقيلا يحول دون المضي في طريق ذلك « المشروع الطبيعي »، او حتى يبطئ من انطلاقه، فإن مصيره الاستئصال والموت.
القوميات الشرسة لا تدجن بسهولة فضلا عن ان تموت.
رأى العالم كيف انبعثت القومية الصربية من تحت ركام عقود طويلة من القيد اليوغسلافي، وانقضت على من جاورها والحلم الذي يقودها بكل عماء هو صربيا الكبرى، صربيا العظيمة والمتسيدة، كما كانت مُتصورة في عقول قادة مهووسين مثل سلوبودان ميلوسيفتش ورادوفان كارديتش.
كانت النتيجة مجازر وإبادة عرقية في قلب اوروبا مرة اخرى، في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو.
الليبرالية والديموقراطية هما الآليتان اللتان اقتحمتا فضاء القوميات الشرسة وعملتا على تدجينها. الليبرالية الديموقراطية تتجاوز التراتبيات الإثنية والقومية الحادة، وتعلي من قيمة الإنجاز كمعيار تفاضل، وتكرس مبادئ المساواة بين البشر على اساس انسانيتهم.
هناك بالطبع اختلالات كبيرة في التطبيق، خاصة عندما نلاحظ خفوت او عدم انعكاس تلك المبادئ في السياسات الخارجية، لكن الشيء المهم والاساسي في الليبرالية الديموقراطية انها توفر معايير انسانية وعالمية للاحتكام إليها، غير مرتكزة على اية اسس قومية.
روسيا بوتين اليوم هي روسيا المهجوسة بإعادة بعث القومية الروسية وامجادها الغابرة.
خطاب بوتين وسياساته الداخلية وبرامجه الانتخابية التي طرحها اثناء ترشحه للرئاسة تنبعث منها روائح الشوفينية.
ولتحقيق احلام « روسيا فوق الجميع » فإن ذلك يعني تبني سلسلة من السياسات الداخلية والخارجية التي تقوم القسر والقوة والإزاحة الإجبارية. داخلياً، تبنى بوتين مفهوم « الديموقراطية السيادية » وهو مفهوم فضفاض وغامض، المقصود المُعلن منه هو عدم السماح لأية اطراف اجنبية في التدخل في « سيادة » روسيا من خلال التدخل في ديموقراطيتها واحزابها وجمعيات المجتمع المدني فيها.
التطبيق المباشر لـ « الديموقراطية السيادية » كان تشديد القبضة البوليسية على الحريات العامة، والجمعيات، والاعلام، وقولبة كل ما هو موجود في المجتمع والسياسة والثقافة وفق رؤية بوتين.
وكأحد الأمثلة المُدهشة الآن ليحاول القارئ أن يتذكر إن سمع رأياً حول الشأن السوري من اي سياسي او صحافي او مثقف او ناشط او اكاديمي روسي يخالف الرأي الرسمي؟ في اي بلد آخر على الجهة الاخرى من « الديموقراطية السيادية »، وبدءا من الولايات المتحدة وحتى تركيا ومرورا بكل البلدان الاوروبية هناك طيف واسع من الآراء يشمل السياسيين والاعلاميين والكتاب والاكاديميين.
في السياسة الخارجية ينطلق بوتين من شوفينية روسية إزاء الجوار الاقليميي.
فبوتين يرى في الجمهوريات الآسيوية « الحيز الحيوي » لروسيا، والذي يفرض على موسكو ان يبقي تلك الجمهوريات تحت النفوذ الروسي وتابعة له، سواء أكان ذلك تحت ظل الاتحاد السوفياتي وعبر الشيوعية الاممية، او عن طريق مباشر ومن دون التخفي وراء أية مشروعات ايديولوجية.
ولم يترك بوتين أي مجال لأي متشكك في سياسته إزاء الجوار الاقليمي، وهي السياسة التي قامت على القسر والبطش والتركيع، من الشيشان وتسوية عاصمتها غروزني بالارض، إلى جورجيا وتركيعها وتنصيب نظام موال لموسكو فيها.
بوتين الذي يتشدق بضرورة التزام الدول الكبرى بالقانون الدولي عند طرح افكار التدخل الخارجي في سورية، داس على ذلك القانون وتبختر عليه جيئة وذهابا في الجوار الاقليمي، ثم لفظه بعيداً.
قيصر موسكو الذي يريد أن يدخل التاريخ بكونه من اعاد بعث المجد الروسي بعد الإذلال الذي تعرضت له روسيا إثر انهيار الامبراطورية السوفياتية، وبكونه من اعاد توحيد الاراضي السلافية.
ولأنه مهجوس بشوفينية روسية عابرة للحدود وخطيرة فإنه لا يخجل من رعاية ما يُعرف بـ « نادي ثعالب الليل » وهم مجموعات من راكبي الدراجات النارية، والمعروفون بشعور رؤوسهم ولحاهم الكثة، والاوشام والسلاسل التي تملأ سواعدهم وصدورهم، ويعتبرون من اشد مؤيدي بوتين ونظرته القومية الشوفينية.
وهم يطوفون في رحلات طويلة سواء في روسيا او البلدان المجاورة لها، واحيانا تستهوي بوتين ان يرافقهم في بعض جولاتهم.
وفي حادثة مشهودة تناقلتها وسائل الاعلام العام الماضي توقف بوتين مع « ثعالب الليل » في احدى جولاتهم في اوكرانيا خلال زيارة رسمية له للبلاد وتجول معهم وأبقى الرئيس الاوكراني منتظرا له اكثر من اربع ساعات. وفي نفس تلك الزيارة نقلت اقوال وعهود اخذها « ثعالب الليل » على انفسهم امام بوتين بأنهم سيبقون إلى جانبه كي يساعدوه في توحيد الاراضي السلافية التي قسمها الاعداء!
الذي يصفقون لبوتين وروسيا على « القوة » و »العظمة » التي يبديها في السياسة الدولية عليهم ان يراجعوا انفسهم.
روسيا بلد عظيم وتاريخها غني ولا تحتاج إلى سياسة شوفينية كي تثبت نفسها.
القومية الشوفينية تقضي على الذات قبل أن تقضي على الآخرين، هذا هو درس التاريخ الذي لا يمل من تعليمنا.