بشار الكيماوي وعقدة قتل الأب – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 27 août 2013

ليس سلوكاً انتحارياً، فحسب، ذاك القرار الذي دفع بشار الأسد إلى قصف الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيميائية، فأوقع أكثر من 1300 ضحية. وأسبابه لا تقتصر على اعتبارات عسكرية ميدانية، أو سيكولوجية تسعى إلى تهدئة روع الأنصار، ورفع معنويات المحازبين. كان ثمة، في الباطن البنيوي العميق للشخصية، عطب تكويني استفحلت أعراضه طيلة 13 سنة أعقبت تنصيب وريث لم يكن، ألبتة، « أهون الشرور »، بل برهن أنه أسوأها.

ذلك العطب يتمثل في أنّ النرجسية العالية (التي يردّد العارفون بشخصية الأسد الابن أنها عنصر طاغٍ في تفكيره اليوميّ)، لا تكتفي بإعادة إحياء شخصية الأب عن طريق إعادة إنتاج نظامه؛ بل لعلها تقتضي أيضاً قتل ذلك الأب عن طريق تفوّق الابن على تلك السياسات والطبائع والأفعال التي صنعت صورة أبيه المستبدّ، وأشاعت رهبته، وعمّمت سطوته. وبين مظاهر هاجس قتل الأب، ذلك التصريح الشهير الذي أطلقه الأسد الابن، في مطلع توريثه، من أنّ « حافظ الأسد يحكم سوريا من قبره »؛ إذْ يمكن للتصريح أن يحمل الوجهتين معاً، وعلى نحو متكامل: أنّ الأب حاكم رغم رحيله عن عالمنا، وأنّ قتله بصفته هذه خطوة واجبة من أجل أن يحكم ابنه!

وكان الأسد الأب قد مضى بعيداً في قمع انتفاضة حماة، 1982، التي شكّلت التهديد الأهمّ لنظام حكمه آنذاك، فأجهزت قوّاته على الآلاف (بين 25 إلى 40 ألف قتيل)، واستخدمت صنوف الأسلحة الثقيلة كافة؛ لكنها توقفت عند حدّ الأسلحة الكيميائية، ليس إشفاقاً على السوريين، بل لأنّ قواعد التغاضي السوفييتي ـ الأمريكي عن المذابح كانت تحظر اللجوء إلى تلك الأسلحة. الأسد الابن ـ ضمن خياراته العنفية المحمومة في التصدّي لانتفاضة لا تهدد سلطته فقط، بقدر ما تُنذر بتقويض النظام بأسره ـ لم يتردد في تجاوز أبيه، وحيازة لقب « بشار الكيماوي »؛ على شاكلة سيء الذكر علي حسن المجيد، أو « علي الكيماوي »، بطل مجزرة حلبجا في كردستان العراق.

وطيلة ثلاثة عقود، بين 1970 و2000، ظلّ الأسد الأب يعمل 16 ساعة كلّ يوم من أجل بناء نظام حكمه، المتراتب بدقّة شبكة العنكبوت؛ حيث تُنسج الخيوط المعقدة يميناً ويساراً، أفقياً وشاقولياً، من المربع إلى المستطيل إلى الدائرة، لكي تنتهي جميعها عند المركز الأوحد الذي يقيم في قلب الشبكة، يصنع القرار النهائي. لكنّ توريث الابن ـ على عجل، بعد تعديل المادة 83 ليصبح عمر الرئاسة مطابقاً لعمره آنذاك (34 سنة)، وترفيعه من رتبة عقيد إلى فريق، دفعة واحدة (قافزاً عن رُتَب عميد ولواء وعماد وعماد أوّل، وعن فترة في الخدمة الفعلية لا تقلّ عن 25 سنة)، وتعيينه قائدًا عامًا للقوات المسلحة ـ كان يكرّس طوراً جديداً في تغييب السياسة عن المجتمع، وتغييب المجتمع عن معطيات العصر الحديث، وإغلاق أبواب سورية أمام رياح المتغيّرات السياسية والاقتصادية والمدنية والحقوقية والتكنولوجية التي تجتاح العالم.

وكان التوريث يعني المضيّ، أكثر من ذي قبل، في سياسات الاستبداد وكمّ الأفواه وقهر الحريات وشقّ اللحمة الوطنية، وتكوين المزيد من شبكات الولاء التي ستعيد إنتاج الماضي على نحو أكثر شراسة ودموية، لأنها في الواقع إنما تنهض على بنيان أكثر هشاشة. وتلك ليست وصفة استقرار بأيّ حال، لأنها في الواقع ليست سوى اللائحة الكلاسيكية التي تسرد خصائص أنظمة شمولية استبدادية ولّى زمانها بالضرورة، ولا بدّ أن تُطوى، طال الزمان بها أم قصر. يُضاف إلى هذا أنّ التوريث لم يكن يكرّس مبدأ الحكم العائلي في بلد أقرب إلى مزرعة، كما قال بعض المتحذلقين الذين اعتبروا أنّ الجمهورية لم تكن موجودة أصلاً؛ بل في « الجمهورية السورية » دون سواها، أي تلك الصيغة السياسية التي اختارها الشعب السوري قبل زمن طويل من صعود آل الأسد، وقبلهم حزب البعث بجميع تياراته، وأخذها الشعب السوري أخذاً، ودفع ثمنها غالياً ومراراً.

وهكذا، لم يكن الأسد الابن « أهون الشرور » كما ساجل الكثيرون (وبينهم الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، مثلاً!)، بل أكثرها إنذاراً بالأخطار على سوريا المعاصرة؛ تماماً كما برهنت الوقائع اللاحقة، وتبرهن كلّ يوم!