بعد دخول الأزمة السورية عامها الرابع.. مدارس ودروس – سلام الكواكبي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 6 avril 2014

رؤية نقدية

دخل السوريون عامهم الرابع من الموت والخراب والتشرذم المجتمعي والانهيار الصحي والاقتصادي والهجرة الداخلية واللجوء الخارجي والعجز الدولي. وفي هذا المخاض المتعثّر وشبه المميت، تبرز عدّة مدارس في البحث والتحليل والتعليق والاستنتاج لدى الكثيرين، إعلاميا وأكاديميا وفيسبوكيا وتويتريا. والكل يدلو بدلوه في بئرٍ عميقة مليئة بالدماء وبالجماجم علّه يُخرج منها ترياقا يضع نفسه في مقدمة الصورة الملونة، أينما وجدت، مع ابتسامة المنتشي بالنصر الوهمي أو المتوهم.
شاب سوري يحرس اطلال مبنى المحكمة السورية المنهار في حلب قبل ان يغلبه النعاس (مارس 2014)شاب سوري يحرس اطلال مبنى المحكمة السورية المنهار في حلب قبل ان يغلبه النعاس (مارس 2014)

تبرز أربع مدارس أساسية لاستعراض الحالة السورية في هذه الفضاءات مجتمعة. ويمكن أن يُضاف لها أيضا عدد من الإلكترونات الشاردة بمفردها في مساحة واسعة، لدرجة أنها تحرّض على دعوة القاصي والداني إلى الخوض في معالجة المسألة السورية. ويمكن استعجال تعريف هذه المدارس الأساسية وتبسيطها كالتالي: البكّائية التي تطوّر خطابا لطميا يستند إلى العواطف، الصادقة حينا أو المصطنعة أحيانا، لمقاربة التطورات السياسية والعسكرية والإنسانية. والثانية هي النقدية التي تسعى إلى معالجة نقدية لمسار السنوات الماضية بعيدا عن المعادلة الصفرية محاولة الخروج من عنق الزجاجة السياسية أو سبطانة المدفع المسلط على حيوات السوريين. والمدرسة النقدية تضع تصورات للحلول أو المخارج وسيناريوهات متوقعة، ربما تخيب في مجملها وربما تصيب في جزئها، ولكنها تسعى وتجتهد، بالاستناد إلى قاعدة إيمان صلبة بالأهداف الرئيسة التي خرج السوريون سلميا من أجلها، وهي الحرية والكرامة والعدالة. وهناك المدرسة الواثقة أو المتعجرفة، فهي تحجب الآخر وتُقصيه، لترى فيما اجترّته الذات من تنبؤات أو ما أبدعته الأنا من تصورات أو ما أسهبت به من سيناريوهات هو الذي تحقق، وبأن كل ما هو بقائم ليس إلا ترجمة حرفية للإبداع الفكري والسياسي لأدمغتها. وأخيرا، تبرز المدرسة الحالمة، أو المتوهّمة، أو المثالية، أو حتى الساذجة ربما.

عبارات الندم

هناك تقاطعات موضوعية بين المدارس البكّائية والواثقة والحالمة، فيما بين جميع أطراف المشهد من موالين ومعارضين ورماديين وحياديين وتفريعاتهم كافة. أما المدرسة النقدية، فيمكن أن يتشارك بها المعارضون والحياديون، هذا إذا تم التوافق على تعريفٍ محددٍ لهذه المفاهيم التي يكون الاجتهاد واسعا في تفسيرها.

في المدرسة البكّائية، تبدأ الأقلام إذن تنهل من حبرٍ أحمرٍ قانٍ لتصوغ عبارات الندم أو التوبيخ أو التنديد بما «اقترفته» هذه الثورة اليتيمة من «آثامٍ» وما لم تحققه من انتصارات ومحاسبتها على ما لم تتوقعه من خذلان الدول «الصديقة» التي ملأت المحيطات وعودا. ويطيب للمحللين الاستراتيجيين منهم والتكتيكيين، الغوص في نوايا الدول العابرة للأخلاق وفحص ما ورائيات علم البحار لاجتراع تفسيرات يصحّ أن يُقال عنها: من كل بستان زهرة. وكما المعارضين، يقوم الموالون بالبكاء على أطلال البلد الذي رضوا بأن يعيشوه خانعا ورضوا بأن يعاقروه خنوعين بما تيسر من العطاءات الموزّعة من أولي الأمر. وهم يميّزون في بكائهم بين منطقة وأخرى وبين «شعب» سوري وآخر. وتتطور القريحة اللطمية في وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، فنكاد نقول إن فيسبوك أضحى حائط المبكى الجديد وغير المرتبط بدين أبناء موسى بل هو حائط المبكى السوري في هذه المرحلة. ومن مساوئه الكثيرة، أنه يقسو في عباراته وفي ردود أفعاله، ويمكن أن يلعب دورا كبيرا في إثارة الضغائن والغرائز والنعرات والشتائم عند عدد لا بأس به من مريديه ومن مرتاديه.

تضخيم الأنا والذات

في مدرسة الواثقين، تصبح الأمور أكثر شخصنة، ويكون أعضاؤها أصحاب مدرسة «عليا» في تضخيم الأنا والذات، ولو كان نرسيس حيا، لبحث له عن دور تلميذٍ فيها لا أكثر. فهم سبق وتوقعوا كل المآلات التي وصلت إليها البلاد، ثورة أو دمارا أو فشلا أو نجاحا أو انقسامات أو استقطابات. وهم سبق و«نبّهوا» إلى كل المخاطر التي تحدق بمصير البلاد والعباد، وقد بيّنت الأيام صحة ما نبهوا إليه ولم يستمع إليهم أصحاب الحل والعقد. وهم سبق وانتقدوا اللجوء إلى الخارج في طلب المساعدة، أو أنهم سبق وانتقدوا عدم اللجوء إلى نفس الخارج طلبا للمساعدة. وهم سبق وفهموا كل المخططات التي تحاك ضد الشعب والوطن، وكتبوا في ذلك معلّقات ومجلّدات. وهم سبق وأن انتقدوا، بل وشتموا، كل التشكيلات المعارضة إن فشلت خاتمتها، أو أنهم امتدحوا وأثنوا عليها وعلى قياداتها إن أفلحت جهودها. والمميّز في هذه المدرسة، أن روادها يقولون الشيء وعكسه، حسب ميول الأحداث وتقلّب المسارات، ولا يجدون في ذلك أينما حرج.

أما مدرسة النقد، وهو لا يمكن أن يُنعت بـ«البنّاء» لأنها صفة يصبغها المُستهدف به حينما يرضى عن مستواه وينفيها عنه حينما لا يرضى، فأعضاؤها يسعون من خلال عرضهم للأمور وتحليلهم للمشكلات ووضعهم النقاط على الحروف إلى استعراض البدائل أو تقديم المقترحات أو مقاربة التجارب المماثلة أو مقارنة الصيغ المناسبة أو الاستفادة من الأخطاء لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. وهم في نشاطهم، يحاولون أن يضعوا الهمّ العام في مقدمة الصورة وينأون عن شخصنة أقوالهم أو تجريح من يُنتقد. إضافة إلى أنهم يبتعدون عن إبراز شخصهم على الرغم من سعيهم إلى نشر أعمالهم بكل الوسائل المتاحة. وهم يعرفون أنه في بعض الأحيان، النقد لا يُجدي، آخذين بعين الاعتبار الزمان والمكان. فيحتفظون به لعبور المرحلة وليخرجوه لاحقا بحلّة أكثر شغلا وتمحيصا غير متخلين عنه أبدا.

وأخيرا، تمتاز المدرسة الحالمة أو المثالية، بأنها تضع عناوين شعرية وشاعرية لأحداث تلوكها السياسات وتعجنها الرهانات محلية كانت أم إقليمية أو دولية. إنها، إن كانت معارضة، تنظم شعرا أكثر مما تُعمل عقلا بحديثها عن النشاطات، سياسية كانت أم عسكرية أو إنسانية. وتُبجّل القيم التي تعتقد جازمة بأن كل من انخرط في الثورة يلوذ بها، وهذا يظل، للأسف، أمرا نسبيا إلى حد كبير. وهي ترفض أن توصم أيقونة رسمتها بأنبل الألوان على أنها شاذة أو متجاوزة أو متخاذلة. فيُضحي كل من آمن بالثورة فرضا أو عينا، هو الغيفارا المُنتظر، منزّها عن كل ما يمكن أن يُعكّر صفاء صورته في أذهن انتظرت هذا اليوم، أي يوم الثورة، منذ عقود عدة، ولم تصدق أنه قد حلّ.

شعور عظيم بالإحباط

إننا، وفي بداية العام الرابع من عمر المأساة السورية، نقع جميعا، كسوريين وسوريات، وإلى أي مدرسة انتمينا، ضحية لشعورٍ عظيم بالإحباط والعجز. وهذا يمكن أن يودي بمقدراتنا الذهنية والتحليلية إلى الجمود. ويدعنا عرضة للتعلّق بقشة الأمل التي تطير بها الرياح ذات اليمين وذات الشمال. نبتعد عن المحاكمة العقلية الواعية. نتأثر بما يقوله الآخرون عنا ولنا، أكثر مما نتأثر بما يكتبونه لهم ولنا. لأننا لا نحب أن نقرأ ربما. نبحث عن مخارج مُرضية آنيا دون البحث عن مخارج نهائية لازمة مستدامة. نرتطم أينما توجهنا بالآخرين منا ونعاديهم وننتقدهم ونشتمهم ونُقصيهم ونبخس من قيمتهم. نرفض أن نعترف بتقصيرنا، بأخطائنا، بسلبيتنا وسلبياتنا، بعجزنا، بانحرافنا، بترددنا. نبحث عن المخلّص الآتي من الوهم أو من الخيال أو من السماء، ولا نسعى لكي نُبرزه في ذواتنا وفي إنجازاتنا العملية والفكرية.

انفصال النخب عن حقيقة مجتمعها، والنظرة الفوقية أو العاجية أو الحالمة أو النظرية له، عوامل ستؤول بنا مجتمعة إلى دفع أثمان باهظة

إلقاء اللوم المتكرر على تخلي المجتمع الدولي عن قضيتنا لهو سراب أضحى من الضروري أن ينقشع. فهل هناك مجتمع دولي فعلا أولا؟ وهل، إن وجد، فهو كان قد تمسّك بنا في أي لحظة ليتخلّى عنا الآن؟ هل سبق له أن ادّعى ذلك إلا في أحلامنا؟ وهل آمالنا المعقودة عليه وعلى سياساته ومواقفه ما كانت إلا هروبا من واجب أن ننظّم أنفسنا ونعمل مع بعضنا ونوضّح مشاريعنا ونضع خططنا ونبني تصوراتنا لنرى فيما بعد إن توافقت عليها مصالح الفاعلين من إقليميين أو دوليين؟ إن هذا الهروب الاستباقي من المسؤولية وإيجاد شمّاعة المجتمع الدولي المتخاذل أضحى اسطوانة مشروخة. فمن قراءة مدرسية مبتدئة للتاريخ، الحديث حتى وليس القديم، لم يسبق أن قام هذا «المجتمع الدولي» الوهمي الكيان بأي تحركات فعلية قائمة على أخلاقيات المواجهة أو على مبادئ الحق والعدالة. وهذا ليس انتقاصا أو شيطنة لما هو عليه هذا المكوّن المتصوّر، بل هو الواقع الذي يجب أن تقوم عليه سياسات الدول والتي لا تتدخّل في وضعها وتنفيذها أخلاقيات الصوامع أو دور العبادة أو الكتب. بل تقودها مفاهيم علاقات دولية متعارف عليها في إطار المصالح المتنوعة من سياسية واقتصادية وثقافية.
إغماض الأبصار عن انحرافات بعضنا عن مسار المطالبة بالحقوق، وعن تبني بعضنا الآخر للغة بعيدة عن مفهوم المواطنة والوطن الجامعين، وعن تجاوزات شاذّة تدفع الكثيرين ممن آمنوا بشرعية المطالبات إلى أن يستنكفوا عن الاستمرار في هذا الإيمان، بدأ يعطي ثماره الفاسدة في الممارسات وفي الطروحات. وكأننا نسعى إلى تعزيز الشروخات الاجتماعية التي كنا قد اتهمنا سابقا النظام وأدواته بالتأسيس لها وبالتحفيز على إدامتها وتعميقها. وإذ بنا، نقع في الحفرة التي طالما جرى التنبيه إلى موقعها وإلى مدى عمقها، لنتبنى خطابات مذهبية، عنصرية، ذكورية وندخلها في حيّز الممارسة «الثورية» في أسوأ الأحوال، أو نتغاضى عنها ونجد لها تبريرات شتى في أحسن الأحوال.

النخب السورية

إن انفصال النخب عن حقيقة مجتمعها، والنظرة الفوقية أو العاجية أو الحالمة أو النظرية له، دون معرفة حقيقية وبحثية وعلمية لمكوناته وتقلباته وتحولاته ونسبة التديّن فيه وتريّفه وتمدّنه، هي عوامل ستؤول بنا مجتمعة إلى دفع أثمان باهظة في عملية البناء المادي والمعنوي. هذه العملية التي لم نقاربها إلا فرادى وبمشاريع ندر التنسيق فيما بينها. وحيث يحتفظ بها ويحميها من خطّها ليبعدها عن الآخرين، وكأنها اختراع الذرة أو أنها ستبني له بيتا على القمر دونا عن بقية السوريين. التكاتف والتعاضد والانفتاح والإيمان بقواسم مشتركة والابتعاد عن مصادر الكره والكراهية، تساعد جزئيا على إيجاد الحلول الواقعية للمأزق القائم. هذا المأزق الذي يمنع من نضوج ثمار ساهمت دماء غزيرة في زرع بذورها. لن يقوم بهذا العمل أحد سوانا نحن السوريين، ولن يساعدنا عليه أحد إلا فيما قلّ وندر. وليس في الانتظار والترقّب إلا المقتلة.

العزم والأمل اللذان كسرا حاجز الخوف وأخرجا المواطن السوري من قوقعة الرهبة والعسف، ما زالا حيين لديه. وسعيه إلى حياة أفضل وإلى غدٍ مشرق، رغم الألم والدمار والحسرة السائدين الآن، يجب أن يترافق مع عمل دؤوب على توضيح المفاهيم ونبذ الشوائب الفكرية والعملية. إضافة إلى قبول مراجعة ما سبق القيام به على كافة الأصعدة وانتقاده للبناء على دروسه. لقد تم اقتياد السوريين إلى مواجهات لم يتوقعوها وإلى ممارسات صعبة القبول من كل كائن سويٍ. ولكنهم أثبتوا فعلا قدرتهم على اجتراح المعجزات، التي كان خروجهم السلمي للمطالبة بالحرية أولاها وأجملها.