رحلة المهانة والتنكيل – محمد أبي سمرا

Article  •  Publié sur Souria Houria le 23 octobre 2011

تقدم هذه الشهادة رواية ناشط سوري عن يوميات الانتفاضة وتظاهراتها في مدينة بانياس، وعن هجوم وحدات الجيش والأمن والشبيحة على بلدة البيضا القريبة منها

بعدما جلت الأجهزة الأمنية عن بانياس، وأخلى رجالها مقارهم من محتوياتها وقفلوا أبوابها ليلة الجمعة – السبت 2 نيسان، عاش أهالي المدينة في حال من القلق والحيرة والترقب، يخالطهم شعور غريب وجديد بالتحرر من سطوة تلك الأجهزة ورقابتها المزمنتين. فالتحرر هذا كان محاصراً بحواجز رجال الأمن على الطرق المؤدية الى المدينة، والتي تخرج منها، فيما وحدات من الجيش ودباباته ترابط على تخومها وتضرب عليها حصاراً، عطل الأعمال ودورة الحياة العامة فيها. كل شيء كان جديداً علينا في تلك الأيام الاولى من نيسان. حتى ضوء النهار في الشوارع وعلى البيوت كان جديداً وغريباً، كأنه يطيل مكوثه في الأماكن، كالأصوات التي صارت أشد وضوحاً ومتطاولة الأصداء في أسماعنا، فيما نحن ننشط لحشد المتظاهرين وتسيير التظاهرات اليومية
في نهار من تلك النهارات دُعينا، نحن مجموعة من الشبان، الى حضور اجتماع في منزل تاجر ميسور في بانياس. ضم الاجتماع زهاء 50 شخصاً من وجوه العائلات ورجال الأعمال والتجار المعروفين بعلاقاتهم المتفاوتة ببعض أركان الحكم ومقدمي الأجهزة الأمنية. وحضر أيضاً المجلس البلدي ورئيس البلدية في المدينة، وجمع من الأطباء والمهندسين ومدرّسي الجامعة. كنا نحن الشبان نعلم مسبقاً أن لدى الداعين الى الاجتماع تفويضاً من مقدمي أجهزة الأمن المركزي في طرطوس، وأنهم مكلفون العمل على تهدئة الوضع في المدينة، وحملنا على العزوف عن التظاهر. بعد زهاء ساعتين من المناقشة وتبادل الرأي انفض الاجتماع الذي تعهد فيه بعضنا، نحن الشبان، على مضض، وقف التحريض على التظاهر والدعوة اليه، فيما ظل آخرون منا صامتين، كناية عن رفضهم هذا التعهد
بعد صلاة الجمعة 7 نيسان، خرجت من مسجد أبي بكر الصدّيق تظاهرة صغيرة، شارك فيها ما بين 200 و300 شاب، بعضهم من بانياس وكثيرون منهم من بلدتي البيضا والبساتين القريبتين. وفي الطريق الى ساحة السنتر – التحرير، انضم الى المتظاهرين زهاء 60 شاباً. لم يمكث شبان هذه التظاهرة الصغيرة وقتاً طويلاً في الساحة، فغادروها قبل صلاة العصر. لكن وفاة الشاب أسامة الشيخة في المستشفى فجر الاثنين 10 نيسان، متاثراً بجروحه الخطرة جراء إصابته برصاصات رجال الأمن العشوائية التي أطلقوها في الشوارع قرب جامع أبي بكر صبيحة 2 نيسان، جدّدت غضب أهالي بانياس وغيرها من القرى، وسخطهم، فخرج أكثر من 10 آلاف شخص في جنازة الشيخة. فبعدما نُقل جثمانه، صباح الاثنين، الى بيت أهله في قريته القريبة، البساتين، انطلق منها موكب تشييعه، عابراً في القرى التي خرجت جموع من أهلها وانضمت الى الموكب الذي أخذ يكبر ويكبر في الطريق الى جامع أبي بكر في بانياس، حيث صُلّي على الجثمان، وانطلقت الجنازة مجدداً في شوارع المدينة
كان قد سبق الشيخة في الاستشهاد أربعة شبان قضوا في إطلاق رجال الأمن رصاص بنادقهم العشوائي على حي القلعة، بعد ظهر السبت 2 نيسان، فدفنوا في النهار التالي. لكن الشيخة كان الشاب الاول الذي أصيب في الهجوم الأمني على المدينة فجر السبت نفسه، وتوفى بعد أسبوع من تحرر بانياس من القبضة الأمنية وحصارها من خارجها، فاعتبرناه شهيدها الأول، وتحولت جنازته تظاهرة كبرى سارت الى مثواه الأخير في قريته البساتين. موكب التشييع – التظاهرة الحاشدة، وأخبار التظاهر والقتل اليومي في درعا، وخروج تظاهرات كبرى في حمص وداريا ودوما في ريف دمشق، ألهبت حماسة أهالي بانياس، وبعثت فيهم العزم على مواصلة التظاهر، برغم تردد فئة منهم، فضّلت التريث والانتظار

النساء في الشوارع

بعد صلاة ظهيرة الجمعة 14 نيسان، خرجت من مساجد بانياس الى ساحة السنتر – التحرير، تظاهرة حاشدة. مكث المتظاهرون في الساحة حتى أقاموا صلاة العصر، فألقى مثقفون إسلاميون وليبيراليون ويساريون كلمات دعوا فيها الى مواصلة التظاهر حتى إسقاط النظام، فخرجت ظهيرة الثلثاء 18 نيسان تظاهرة اخرى كبرى تجمعت روافدها في الساحة نفسها التي كانت على موعد مع استمرار التظاهر ظهيرة الجمعة 21 نيسان، ومع خروج النساء للمرة الأولى الى شوارع بانياس، متظاهرات في جموع منفصلة عن الرجال. امرأة في الثلاثين من عمرها وقفت خطيبة في النساء المحتشدات في ناحية من الساحة، فدعتهن الى مواصلة المشاركة في التظاهر، والى الخروج غدا السبت في تظاهرة نسائية، دعماً لأهالي درعا وإحياء لذكرى شهدائها، واحتجاجاً على هجوم الجيش عليها وعلى اللاذقية التي يتعرض أهلها للقتل اليومي أيضاً. في ظهيرة السبت 22 نيسان، احتشدت جموع من نسوة بانياس وقراها القريبة متظاهرات في ساحة التحرير، من دون مشاركة الرجال. وفي أثناء التظاهر اتصل بعض من أهالي مدينة جبلة بأقاربهم ومعارفهم في بانياس، وقالوا إن مدينتهم تتعرض لهجوم عسكري، فتداعى أهالي بانياس الى التظاهر غداً، الأحد 23 نيسان، الذي خرجوا في صبيحته جموعاً من رجال ونساء وشبان وشابات، وتوجهوا الى الأوتوستراد الذي يعبر في طرف مدينتهم، ويشكل شريان حركة المواصلات ما بين اللاذقية شمالا وطرطوس جنوباً على الساحل السوري. عطلت الحشود حركة السير على الأوتوستراد، لكن النساء وحدهن مكثن محتشدات في وسطه حتى المساء، احتجاجاً على العملية العسكرية في جبلة، وللمطالبة بوقفها

خوف وتظاهرات ليلية

بعد تظاهرة الأوتوستراد، أخذت تصل الى بانياس تهديدات مصدرها المحافظ في طرطوس، وتفيد بأن ساحة السنتر – التحرير ستتعرض لهجوم رجال الأمن، في حال استمر تجمع المتظاهرين فيها. مع التهديدات أُشيع أن المحافظ على استعداد لتلبية ما يريده أهالي بانياس من المطالب، برغم استيائه من خرقهم تعهداتهم السابقة عدم التظاهر. وحين طالبنا بإطلاق سراح معتقلي جبلة الذي يبلغ عددهم زهاء 70 شخصاً، وعد المحافظ بإطلاقهم بعد نهار الجمعة 28 نيسان، حالما يعلم أننا لم نخرج الى التظاهر. إذذاك اشترطنا أن يقدم المحافظ على الاعتذار علناً في وسائل الاعلام، من أهالي جبلة وبانياس. كنا موقنين أن مطلبنا هذا مستحيل، وأخذنا ننشط في الاعداد لتظاهرة الجمعة المقبلة، وسط تكاثف شائعات عن عزم رجال الأمن على اقتحام ساحة التحرير. لذا قررنا التظاهر الى ساحة دوار البلدية التي رأينا أنها أسهل على الحماية، وشهدت تظاهراتنا الأولى. وبرغم خوفهم من التعرض للخطف او الاعتقال على حواجز رجال الأمن خارج بانياس، أقدم بعض من عائلاتها على مغادرتها الى طرطوس وحلب ودمشق، خائفين من تعرض مدينتهم لاقتحام أمني وشيك. لكن الخوف لم يقلل من عزمنا على تشجيع الأهالي على التظاهر، ولطمأنتهم وضعنا، مع مجموعات منهم، خطة لحماية المتظاهرين في الساحة وفي الشوارع المؤدية اليها، حيث توزعت حواجز من الشبان والرجال يحملون العصي والسلاح الابيض، من خناجر وسكاكين وسيوف وقضبان من الحديد، إضافة الى بعض من بنادق « البومب أكشن » والكلاشنيكوف في مواضع خلفية، لاستعمالها في حال تنفيذ رجال الأجهزة الأمنية تهديدات المحافظ باقتحام الساحة وإطلاقهم النار على المتظاهرين. والحق أن الخوف وتوقع الهجوم، دفعا زهاء 15 الف شخص من أهالي بانياس وقراها، وخصوصاً من بلدة البيضا والبساتين، الى الاحتشاد في مساجد مدينتنا للصلاة في ظهيرة الجمعة 28 نيسان، قبل اندفاعهم الى الشوارع متظاهرين في اتجاه ساحة دوار البلدية، وهاتفين بحماسة غير مسبوقة لله وسوريا وللحرية، ولاسقاط النظام. على خلاف التظاهرات السابقة، لم تستغرق تظاهرة الجمعة هذه أكثر من 3 ساعات، تفرقت الجموع بعدها، وخلت الساحة تماماً من الناس
في الأيام التي تلت تظاهرة هذه الجمعة في 28 نيسان، استمر خروج التظاهرات يومياً الى شوارع مدينتنا، فيما كانت بلدة البيضا وغيرها من القرى القريبة منها، تتعرض لهجوم امني وعسكري كبير، فتصل الينا اخباره اليومية مع تكاثر الأقاويل والشائعات عن اقتراب موعد اقتحام بانياس التي اخذت تخرج جموع من شبانها واهلها في تظاهرات ليلية مدفوعة بالقلق والخوف من البقاء في البيوت، ودفعاً للقلق والخوف

ليلة البيضا السوداء

كانت الاجهزة الامنية تعلم ان شبان بلدة البيضا التي تبعد عن بانياس زهاء 10 كلم، ويقيم كثيرون منهم في مدينتنا، هم الشبان الانشط في تحريك التظاهرات وحشدها وتنظيمها. وكان محافظ طرطوس قد بعث الى اجتماع الوجهاء الاخير في بانياس، لائحة باسماء زهاء 300 شاب من شبان البيضا، مطالباً بتسليمهم الى الجيش، متعهدا اطلاق سراحهم، بعد الحصول على افاداتهم، باعتبارهم من اطلقوا النار على الجنود الذين قتلوا في محلة رأس النبع في 2 نيسان، ويعلم اهالي بانياس ان العقيد، قائد وحدتهم العسكرية، هو الذي اطلق النار عليهم، بعد رفضهم اوامره بإطلاق النار على حي القلعة. وبحجة عدم استجابة اهالي البيضا وبانياس طلب المحافظ والجيش، بدأت وحدات عسكرية وامنية وزمر الشبيحة بالهجوم على البيضا، بعد تظاهرة بانياس الحاشدة نهار الجمعة 28 نيسان. مهّد الجيش للهجوم بقصف مدفعي كثيف على البلدة، قبل ان تدخلها وحداته التى قال جنودها للأهالي ان هدفهم مصادرة السلاح الذي استعمله شبان من بلدتهم في قتل الجنود في بانياس. هذا بعدما كان القصف المدفعي قد قتل رجلاً من الاهالي قرب بيته، وآخر في حي النصارى على طرف البلدة. وسط تقدم الجنود واطلاقهم نيران بنادقهم الرشاشة في الطرق وعلى البيوت، يتبعهم رجال الامن والشبيحة الذين بدأوا باعتقال الرجال عشوائيا وضربهم وشتمهم، فر شبان البيضا من بيوتهم هاربين الى الحقول والبساتين. استمرت مثل هذه الاعمال ساعات انتهت بجمع زهاء 300 رجل من الاهالي في ساحة بلدتهم، بعدما دخل رجال الامن والشبيحة من القرى القريبة، الى البيوت وأطلقوا النيران على اثاثاتها ثم حطموها، ونهبوا مدخرات اصحابها المالية التي قدِّرت، لاحقا، بمئة مليون ليرة سورية ومليونين من الدولارات الاميركية، اضافة الى مجوهرات النساء
استمر احتجاز الرجال في ساحة البيضا ليلة كاملة منطرحين ارضا، مقيدي الايدي والارجل، فيما رجال الامن والشبيحة ينهالون عليهم رفساً بأقدامهم، وضربا بالعصي وبأعقاب البنادق، شاتمين امهاتهم ونساءهم وبناتهم واخواتهم أقذع الشتائم. بين ساعة واخرى من تلك الليلة المعتمة – اذ كانت الاتصالات والتيار الكهربائي قد قطعا عن البيضا وغيرها من القرى القريبة – كان رجال الامن والشبيحة يعتلون ظهور الرجال المرميين ارضاً، متقافزين عليها هاتفين صارخين: الله وسوريا وبشار وبس، ثم يقومون بجر بعض الرجال من ارجلهم، مسددين الى رؤوسهم رفسات من اقدامهم على وقع صرخاتهم: بدكن حرية يا منايك، بدكن حرية؟! خود حرية ولاه، خود ولاه خنزير. وفي اثناء نوبات الرفس هذه والقفز على الظهور، كان هذا او ذاك من رجال الامن والشبيحة ينادي قائلا للآخر: شوف هالخنزير هاد، شوف. ليك هالخنزير هاد، ليك هالكلب ابن الكلب، يا قرد، قال بدّو حرية، قال… خود حرية يا حيوان… خود… مش عارف انو بشار ربكم، ولاه؟!
مع انبلاج الفجر انهى رجال الامن والشبيحة افعالهم هذه، بإحضار عدد من الباصات الى ساحة البيضا. وبعدما افرغوا من مثاناتهم البول على اجسام الرجال ورؤوسهم وفي افواههم، فكّوا ايديهم وارجلهم المقيدة، وأدخلوهم الى الباصات، ثم ساروا بهم متجهين الى القرى التي خرجت جماعات من اهلها الى الطرق لاستقبال رجال البيضا بنوبات جديدة من طقوس الاهانات والشتائم والتشفي. فما إن كانت الباصات تصل الى هذه القرية او تلك، حتى يصعد اليها جمع من نسائها ورجالها وشبانها، فينهالون على الرجال المعتقلين او الاسرى بأقذع الشتائم، باصقين على وجوههم التي تروح قبضات بعض شبان القرى تنهال عليها بلكمات الحقد وسط زغردات النسوة، وصرخات رجال الامن والشبيحة المتهكمة، فيما يصرخ هذا الشاب او ذاك برجال الامن قائلا: اعطونا هذا الراس لنذبحه، شقد حق هالراس، شقد؟ عشرة آلاف؟ هاي عشرة آلاف، عطونا ياه لنذبحو
حتى الظهيرة استمرت جولة المهانة والحقد هذه في القرى، فقاد رجال الامن والشبيحة الباصات برجال البيضا الى فرع الامن العسكري في طرطوس، حيث بدأت من جديد نوبات تعذيبهم مع زهاء مئة رجل وشاب من بانياس كان رجال الامن قد اعتقلوهم على الحواجز والكمائن التي نصبوها على الطرق المؤدية اليها. وفي سجون الامن العسكري والسياسي بطرطوس، تعرض بعض الرجال والشبان الاربعمئة المعتقلين لتعذيب منهجي، فكسرت ارجل كثيرين، ونُتف الشعر من ذقون الذين يطيلون لحاهم، وفقئت عيون ما لا يقل عن خمسة رجال
صبيحة النهار التالي خرجت نسوة البيضا من بيوتهن في البلدة، وسرن على اقدامهن مسافة تزيد اربعة كيلومترات، حتى بلغن الاوتوستراد القريب من بانياس، التي خرجت مجموعات من نسوتها ايضا، فاشتركن مع نساء البيضا في تعطيل حركة السير على الاوتوستراد طوال النهار. وعند العصر وصل محافظ طرطوس في سيارته، ووعد النساء المعتصمات بإطلاق سراح رجال البيضا وبانياس الاربعمئة. لكن النسوة لم ينهين اعتصامهن، الا بعدما علمن أن الرجال أطلق سراحهم فعلاً بعد هبوط الظلام. وحينما وصلت نسوة البيضا الى بيوتهن وجدن رجالهن محطمين، وبعضهم ترك التعذيب تشوهات في وجوههم واجسامهم. وفي صبيحة النهار التالي تجاسر جمع من رجال القرى على المجيء الى البيضا لتقديم اعتذار لأهلها الذين اعتكفوا في بيوتهم، رافضين استقبال رجال الوفد وقبول اعتذاره

النهار – السبت 22 تشرين الأول 2011

http://www.annahar.com/content.php?priority=3&table=mulhak&type=mulhak&day=Sat