سيريانا’… في لبنان! – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 16 avril 2014

رغم أنها الذكرى التاسعة والثلاثون، وليست بعدُ الأربعين، لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان؛ فإنّ يوم 13 نيسان (أبريل) مرّ على نحو مشهود، ليس عند كثير من اللبنانيين وحدهم، للإنصاف، بل عند سوريين كثر أيضاً. للأمر اعتباراته الوجيهة على صعيدين اثنين، في أقلّ تقدير: أنّ الذكرى تمرّ، على لبنان، واثنان من ‘أمراء الحرب’ الأهلية يتنطحان للرئاسة؛ وتمرّ على سورية، والمذابح التي يرتكبها النظام لا تذكّر بأسوأ ما اكتنف الحرب اللبنانية من أهوال، فحسب، بل تسجّل ما قد لا يقبل المقارنة من حيث مستويات العنف الهمجي الذي يستقرّ عليه بشار الأسد منذ ثلاث سنوات.
وثمة، بالطبع، ذلك القاسم المشترك، اللبناني ـ السوري، الذي يمثّله ‘حزب الله’؛ منذ أطوار تأسيسه الأبكر، حين لعب حافظ الأسد أدوار حاسمة في إطلاقه وهندسته، بالتعاون مع أعلى المراجع الإيرانية، الدينية والاستخباراتية والعسكرية؛ وحتى الساعة، حين صار الحزب ساعداً أيمن، وأحياناً أوحد، لقتال نظام الأسد الابن، ضدّ عموم السوريين. وحول هذا القاسم، وضمن رياضة التذكار والاستذكار ذاتها، ثمة مغزى في استعادة ذلك ‘التراث’ الذي دوّنه رجل بعينه: روبرت بوكر باير، رجل المخابرات المركزية الأمريكية في لبنان مطالع الثمانينيات، والذي تولى سلسلة مهامّ في بيروت والبقاع، تحت ستار باحث في الآثار، وعكف على ترتيب أوّل اختراق استخباراتي أمريكي في بعلبك، خاصة بعد تشرين الثاني (نوفمبر) 1982، حين قاد صبحي الطفيلي مجموعة عسكرية استولت على ثكنة الشيخ عبد الله، التابعة للجيش اللبناني، وسلّمتها إلى الاستخبارات الإيرانية. ومؤلفات باير، التي تدوّن هذه الذاكرة، كانت المادّة الرئيسية للفيلم الشهير ‘سيريانا’، 2005، حيث يلعب جورج كلوني دور ضابط الاستخبارات الأمريكي بوب بارنز.
هنا بعض ما يرويه باير من وقائع:
ـ في عام 1985، خُطفت طائرة الـ TWA في مطار بيروت، وجرى تهديد ركابها بالإعدام، فاتصل الرئيس الأمريكي آنذاك، رونالد ريغان، بالأسد الأب، وطالبه بالتدخل، فأوعز الأخير إلى ضبّاطه في لبنان بأن يحرّكوا دباباتهم نحو مواقع ‘حزب الله’، وانتهى التحذير إلى إطلاق سراح رهائن الطائرة.
ـ وفي عام 1987، وبعد أن خطف رجال ‘حزب الله’ مراسل الـ ABC، ريشارد غلاس، مرّوا على حاجز عسكري سوري وهم يظنون أنهم في مأمن؛ فما كان من أفراد الحاجز إلا أن أنزلوا الخاطفين من السيارة، وأشبعوهم ضرباً، وحرّروا غلاس.
ـ وفي عام 1988، احتجز ‘حزب الله’ اثنين من العاملين في الأمم المتحدة، بين آخرين، فهدد الأسد باعتقال الشيخ محمد حسين فضل الله، وإعدامه، إذا لم يُطلق سراح الرهائن. وكان للأسد ما أراد.
ـ وفي عام 1982 خطفت ميليشيا مسيحية القائم بالأعمال الإيراني واثنين من الدبلوماسيين الإيرانيين وصحافياً لبنانياً، فردّ ‘الحرس الثوري’ الإيراني، وعلى سبيل التمهيد لمبادلة ممكنة، باختطاف الرئيس التنفيذي للجامعة الأمريكية في بيروت، دافيد لودج، وتهريبه إلى إيران عبر سورية. وحين احتجت واشنطن لدى الأسد، الذي لم يكن على علم بالأمر، استشاط غضباً، وأبلغ إيران أنه سوف يطرد ‘الحرس الثوري’ من لبنان ما لم يتمّ تحرير الرهينة. ولم يمض وقت قصير حتى كان لودج حرّاً طليقاً.
أبرز دلالات هذه ‘الذاكرة’، أنّ وقائعها جرت في عهد الأسد الأب وليس الأسد الابن، وشتّان بين الاثنين لجهة السطوة ومهارة المقايضة. كذلك جرت حين كان أكثر من 35 ألف جندي، من جيش النظام السوري، يرابطون هنا وهناك في الأراضي اللبنانية، وكان في وسع الأسد الأب أن يكلّف رئيس الاستخبارات العسكرية في لبنان (محمد غانم، غازي كنعان، أو رستم غزالي) بالقيام بما تعجز الدبابات عن تحقيقه في الحياة السياسية والأمنية اللبنانية. وأخيراً، جرت تلك الوقائع حين كان الأسد الأب في حال سياسية إقليمية، وأخرى اقتصادية داخلية، وثالثة مزاجية نفسية ربما؛ تسمح له بالذهاب حتى أقصى التجارة مع واشنطن، بما في ذلك إرسال قوّات سورية للقتال تحت الراية الأمريكية في تحالف ‘حفر الباطن’.
دلالة أخرى، محورية، تشير إلى أنّ ‘حزب الله’ هذه الأيام ليس ‘حزب الله’ تلك الأيام؛ لأنه ـ بعد أن صار قوّة داخلية لبنانية ـ إيرانية، أو إيرانية ـ لبنانية لمَن يشاء، سياسية وعسكرية ومذهبية ـ صار، أيضاً، قوّة إيرانية في سورية، عسكرية ومذهبية بدورها. وأياً كانت طبيعة الصلات الراهنة بين ‘حزب الله’ وأجهزة النظام السوري المختلفة، فإنها لا تُقارَن بتلك الأطوار التي أتاحت للأسد الأب أن يهدد باعتقال الشيخ فضل الله، أو بطرد ‘الحرس الثوري’ من إيران. وفي هذا الصدد، كان باير قد نقل عن رجل أعمال سوري، مقرّب من الأسد الابن، هذا التشخيص الخبيث، والشامت بالطبع: ‘لم يعد لبنان مشكلة سورية. لقد طردتمونا منه، فأسلمناه إلى إيران’.
وتبقى واقعة أخيرة، أقرب إلى نكتة سوداء سمجة، في هذه الـ’سيريانا’ اللبنانية: سنة 2006، خلال زيارته الأولى إلى لبنان بعد انسحاب النظام العسكري من البلد، أعلن وليد المعلّم، وزير خارجية الأسد، أنه شخصياً مستعدّ أن يكون ‘جندياً عند السيد حسن نصر الله’. ذاك كان البذار، ما شاء الله، والزرع أينع في القصير ويبرود!