على مائدة دوما الطائفية – باسل محمد

Article  •  Publié sur Souria Houria le 7 janvier 2012

الساعة الثانية ظهر يوم الاثنين 28-11-2011 ،يأتي اتصال من إحدى الناشطات (مرمَز ومختصر) ،أفهم منه بأن هناك مشاركة لشباب وشابات من كل الطوائف في عزاء أحد شهداء دوما (الشهيد محمد بن علي بكار، والذي استشهد بنيران الأمن السوري ومظاهرة مرافقة للعزاء

الساعة الخامسة والنصف تماماً ،شباب من دمشق وطرطوس ومناطق أخرى ،جاؤوا خصيصاً للمشاركة ،يجتمعون في إحدى زوايا شارعٍ دمشقيٍ بانتظار الحافلات التي ستقلهم إلى دوما. دقات قلوبٍ ،وحذرٍ ،وبردٍ قارسٍ يخز الوجوه القلقة

تنطلق الحافلات باتجاه دوما, تعبر من طرق يعرفها سكان البلدة وسائقوها كي لا يمروا بنا على الحواجز الأمنية. رائحة دوما تسري في الجو, الضاحية الدمشقية مهمَشة كباقي ضواحي دمشق. يكفي أن تعبر حافلة من هنا ليتصاعد الغبار حدود السماء, لا لافتات هنا تدل على دوما، باستثناء أن جدران المباني الحكومية والمدارس باتت تتسع لشعارات الناشطين المطالبين بإسقاط النظام السوري. تتوقف الحافلات, ينزل الشباب والشابات، يتصاعد البخار من الأفواه والأيدي الباردة

يتجمع الشباب, يعلو صراخ أحد الشباب (تكبير)، فيرد الجميع (الله أكبر حرية), تبدأ مظاهرة صغيرة لضيوف دوما وسط دهشة العابرين للشارع: يا دوما، َطرطوس معاكي للموت! نعبر الشارع، ونصل إلى مجلس العزاء، تعلو الهتافات ويتجمع الناس: واحد، واحد واحد, دوما وطرطوس واحد! تصطف الصفوف وتبدأ الهتافات, لم يكن كل الضيوف من طرطوس، كانوا من حمص ومن يبرود والجولان والسلمية وحماه، ومن كل طوائف سوريا وإثنياتها. يتناوب الشباب على الهتاف. تمتزج الصيحات بالأغاني واللافتات المرفوعة, أحد الشباب من حمص يكتب على لافتة: أنا علوي وأريد إسقاط بشار الأسد ونظامه! ويرفعها فتتعالى الأصوات. إحدى الشابات الناشطات تبدأ بترديد أغنية القاشوش وتتبعها الجموع. نخرج خارج مجلس العزاء فقد جاء وفد من نسوة دوما للترحيب بالشابات. يصنع أهل دوما حلقة من أجسادهم حولنا لحمايتنا من رصاص غادر، فما زال رجال الأمن يعتلون المباني الحكومية هنا. نستأذن الجميع للعودة إلى دمشق, يرفض الحاضرون، ويصرّون على استضافتنا على فنجان قهوة ويترجون الشباب والشابات أن نرافقهم إلى أحد المنازل القريبة, وما المانع؟! أليست ثورة سوريا لكسر الخوف وإعادة ثقة الناس بأنفسهم وبالآخرين؟

نتوجه إلى منزل في المنطقة مع أحد رجال دوما، نصل فتأتي الوفود وتدور كؤوس الشاي لتتبعها الفواكه احتفاءً بضيوف دوما. بعد التعارف والتناوب على إطلاق النكات حول الطائفية المزعومة والترحيب, يصل أحد مشايخ دوما ويستأذن لإلقاء كلمة ارتجلها من وحي جلستنا. يستمع الشباب للكلمة التي بدأت بنبذ العنف والعنف المضاد، وتوجيه كلمة للشباب بضرورة عدم الوقوع في فخ الحقد، ويعطي الشيخ أمثلة عما تعرض له في أحد الأفرع الأمنية من ضرب وشتائم تطال العرض والذات الإلهية، وأن الرد يكون بالتسامي على ردود الأفعال. يقول الشيخ :إن السوريين ولدوا من رحم واحد هو سوريا، وإن تكاتف السوريين جميعا هو رد الجميل لأمنا سوريا. بعد الكلمة التي ألقاها الشيخ الثائر تدور النقاشات حول الطائفية التي يفتعلها النظام في مناطق سوريا وضرورة تطويقها، لأن الحرب الأهلية والأحداث الطائفية « سيستفيد منها النظام فقط »، في رأي الشباب. وعن الفيديوهات التي يتم تسريبها من قبل رجال الأمن بهدف التحريض الطائفي, يصل النقاش إلى مستويات أعلى حول الدولة المستقبلية, فيقول الشيخ نريد دولة قانون وعدل, دولة مدنية لكل أبناء سوريا، ونريد رئيساً سورياً عادلاً، أياً كان دينه أو مذهبه. يضيف الشيخ مستذكراً تجربة فارس الخوري، رئيس وزراء سوريا الأسبق , « سأكون مع أن يقود سوريا رئيس مسيحي أو درزي ما دام يحكم بالعدل ومادام يحكم بالقانون والمساواة ». تدور النقاشات وتتعمق, يقول أحد وجهاء دوما عن سلمية الثورة وتحريم الدم السوري: « سنحاسب بعد انتصار الثورة ووفق القانون كل من حمل السلاح ووجهه باتجاه أخوته السوريين، وجرح أو قتل إنساناً لا ذنب له ،حتى إذا كان من رفع السلاح وقتل بريئاً هو من الجيش الحر! ». ويضيف الرجل الذي يعمل في التجارة ويتركز عمله في الساحل السوري: « هناك أصوليون من السنة والعلويين والمسيحيين والعرب والأكراد…، لكنهم في سوريا قليلون جدا، ويحاول النظام تضخيم صورتهم في الإعلام لخلق فوبيا من الإسلاميين والأصوليين ». فيرد أحد شباب طرطوس: « لعبة النظام السوري تشابه لعبة الغرب بخلق البعبع الإسلامي وتخويف أبناء البلد الواحد من بعضهم »! ويضيف « الإسلام رسالة إنسانية وحضارية قبل أن يكون رسالة دينية، والإسلام في سوريا مشرق ومعتدل وليس متزمتاً أصولياً ». لم يبق شيء لم يتم نقاشه حتى أكثر النقاط حساسية كموضوع الكحول والرسوم المسيئة للإسلام التي أطلقها أحد الرسامين الدنماركيين، فكان رد الشيخ بأن « جزء من المسؤولية عن هذه الرسوم يتحملها بعض المسلمين الذين أعطوا صورة سيئة ومقيتة عن الإسلام ». عندها عدت بذاكرتي إلى المظاهرة التي كانت قبل ساعة، فعندما طلب أحد الشباب قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء السوريين كانت بقربي شابتين مسيحيتين وأحد الشباب الشيوعيين، وكانوا يقرؤون الفاتحة بصوت عالٍ مع الحاضرين، وبإيمان يظهر في العيون. تنتهي الفاتحة فترسم الشابتان الصليب

للمرة الثالثة يستأذن الشباب أهالي دوما للعودة إلى دمشق, إلا أن الرفض هو سيد الموقف، فالعشاء قادم، يقول أحد أهالي دوما: « اعذرونا على القمع! فليس من السهل تجاوز أربعين عاما من القمع! اسمحوا لنا بإبقائكم على العشاء. لن تخرجوا دون أن نتناول العشاء سوية! ». يقول شاب مسيحي كانت هذه أول مشاركة له بالمظاهرات ضاحكاً: « كل يوم سآتي إلى مظاهرة في دوما أو برزة، فبيتي بلا غاز ولا أستطيع تحضير الطعام، وهكذا أتظاهر وارتاح من تحضيره »

خبز وملح ومظاهرات ونقاشات وخوف من الأمن القابع وراء الحواجز جمع  الجالسين حول مائدة دوما من كل ألوان سوريا (مسيحيون، مسلمون, شراكس, عرب, أكراد, سنة, علويون, دروز, اسماعيليون, وشيعة) يتناول الجميع العشاء على مائدة دوما مع الدعاء بالنصر,وأمل بتناول العشاء سوية في ساحة الأمويين. وتتعالى النكات والضحكات الساخرة من الطائفية قبل أن يخرج الجميع من المنزل. كان بود أهالي دوما أن يوصلونا واحداً واحداً إلى بيوتنا. نخرج من البلدة ونعبر إلى دمشق. يتغير المشهد قليلاً: صور الرئيس بشار الأسد ووالده تراقبنا عند مدخل دمشق. نصل إلى أحد شوارع العاصمة الرئيسية نتصل بأهلنا في دوما: نطمئنهم إلى وصولنا بخير إلى دمشق، مع غصة الفراق الذي لن يطول

صباح سوريا – السبت 07 كانون الثاني 2012

http://www.alsabahsyria.com/index.php/2011-12-14-15-19-20/147-2012-01-06-23-08-46