قراءة في الثورة السورية (المفهوم- الواقع- المصير) – خلود الزغير

Article  •  Publié sur Souria Houria le 18 mars 2012

الثورة فعل اجتماعي

حركة مجتمع بكامل شرائحه وتنوعات أمزجتها ونشاطاتها في انتقالها من وضعٍ لآخر وتفاعلها مع هذا التغيير، الثورة عبر التاريخ لم تُنجزْ يوماً على يد شريحة واحدة فقط وفشلت حين ساد التمزق والخصام بين ركائزها وحين عجزت احدى شرائحها عن مواكبة تضحيات ونشاط الشرائح الأخرى

الثورة مجتمع متكامل مع فارق أنه يتفاعل ويتحرك بأسرع من الحركة الاعتيادية للتاريخ، لأن مهمّتها تغيير حركة التاريخ. نجد فيها الشعب (القاعدة الجمعية الدافعة لصناعة التغيير)، السياسيين (بتنوع أيديولوجياتهم ومصالحهم)، المثقفين والمنظرين، النشطاء الميدانيين (النخب الميدانية المنظمة والضابطة والمحركة)، الإعلام، الجناح العسكري المقاوم والمدافع عن المدنيين والثورة في حال قمعت الثورة، التجار والبرجوازيين والمموليين للثورة، المغتربين الداعمين مادياً وإعلامياً بتحريك الرأي العام العالمي وأيضاً النظام ذاته والموالون له والمحايدون هم جزء من نسيج الثورة وأحد مشاهدها مع فارق أنهم جزؤها الوقح

مقاومة جديدة

قد لا تكون الثورة السورية هي من ابتكر المقاومة باللاعنف والسلميّة، وهو ما اختارته نهجاً منذ البدء وتستمر به إلى جانب المقاومة العسكرية ببعض المناطق، إلاّ أنها بالتأكيد قدمت نموذجا جديدا عن مقاومة الموت بالغناء ومقاومة القهر والظلم بالتهكم والابتسامة. سنة كاملة والمشهد السوري يتكرر، شعبٌ يدفن شهداءه بالنهار ويقيم لهم أعراساً في الليل ليغني للوطن وللشهيد وللحرية القادمة. صفحات لا تعد ولا تحصى من التهكّم والسخرية والرصد لكل حركات وتصريحات النظام وشبيحته الإعلاميين ومسؤوليه لا يمكن لأي مختص في علم نفس الحروب أن ينكر أثرها السلبي على النظام وجماعته وما تخلفه من تحطيم لصورة الأب/الديكتاتور ومن أثر إيجابي لروح الثورة المشتعلة

سنة واحدة كانت كفيلة بكشف ابداعات شباب سوري مغمور، كان يمكن أن يبقى كذلك، خرج عن صمته ومن خوفه ليقاوم الهمجية إما بكاميرته أو بفنّه عبر رسومات وفيديوهات مبتكرة وهادفة لتنظيم حملات وإضرابات أو بتخطيط لافتات وطباعة بروشورات ومناشير وصور الشهداء ونشر حملات الإغاثة وتوصيل المساعدات

بعد انهيار «رموز المقاومة» في لبنان وسوريا والمنطقة وفضح حقيقتها المصلحية والطائفية وزيف مقولاتها، بعد خيبة الأمل فيها من أقصى اليمين لأقصى اليسار يؤسس السوريون اليوم نموذجاً وطنياً وعربياً وانسانياً في المقاومة لأجل الإنسان ولأجل الحرية ولأجل الكرامة

السلميّة .. والتسلّح

لأنها سوريا.. ولأن الثورة فعل اجتماعي كان لابد من الخيارين معاً. السلمية، وبفضلها، وصلت القضية السورية لشعوب العالم كقضية أخلاقية وقانونية وإنسانية شرعية وبفضلها أيضاً فقد النظام حججه بالدفاع عن نفسه أمام المجالس العالمية والعربية سياسية كانت أم حقوقية. السلمية واستمرارها للآن وقمعها الوحشي، وحده، شرعن أحقية وجود الجيش الحر وبدأ المقاومة المسلحة بعد عجز اللافتة والأغنية عن الصمود بوجه الرشاش. السلمية باقية وللآن وهي سلاح المدن المكتظة كدمشق وحلب وباقي المدن الغير مؤهلة للقتال ولايزال حلم الوصول للأمويين والعباسيين يرفرف كل صباح من قاسيون

الجيش السوري الحر واقع وحقيقة لا ينفع تجاهلها ولم يعد بالإمكان إنكارها، يمكن الحديث ومناقشة مسألة التسلح الفوضوي أو ضعف التنسيق بين ضباط الجيش الحر أو تشكيل جماعات تحمل السلاح وتقوم بعمليات باسم الجيش الحر ودون علمه ولا يرضى عنها لتشويه سمعته. يتوجب النقاش، ويبدو ضرورياً اليوم، في كيفية التنسيق بين القرار السياسي والقرار العسكري لضمان الالتزام بأهداف الثورة ومبادئها، التنسيق بين القطعات والكتائب العسكرية المنتشرة في الأراضي السورية من جيش حر ومتطوعين لربطها ببعض ومع قياداتها لهدفين. الأول: تحقيق الخطط والأوامر المطلوبة حالياً وفق مستجدات الأحداث لضمان سلامتهم وسلامة المدنيين وعلى رأسها إعادة النظر بالإعلان عن مدن وبلدات «محررة» في ظل الإمكانيات الحالية للجيش الحر وكذلك إعادة النظر بالمقاومة من داخل البلدات والأحياء المدنية. ثانياً: ضمان تسليم الجميع وخاصة المتطوعين لسلاحهم بعد انتهاء الثورة

الجيش الحر قام لحماية المدنيين أي المتظاهريين السلميين، والسلمية لم ولن تتوقف فالمظاهرات قلت عدداً (حشداً) وزادت كمّاً في اليوم والاسبوع ونقاط التظاهر والحراك السلمي من إضراب وعصيان وأغانٍ ثورية وفيديوهات ومقالات وصحف وجرائد لا تكف عن الانبثاق من بين كل هذا الدمار الذي تخلفه المدافع

الأسلمة والتنوع

خطابان في هذه المسألة يتوجب الإشارة لهما. الأول من السوريين غير الإسلاميين والعلمانيين والكورد أولئك الذين شاركوا بالثورة واعتقلوا وعذبوا قبلها وبعدها أو تعاطفوا معها ودعموها بصمت، لكنهم اليوم يواجهون بخطاب تخويني أو تكفيري أو إقصائي تحت شعار «ثورة أهل السنة» مثلاً وأن من قتل وشرّد هم المسلمون السنة وليس غيرهم! هذا صحيح ظاهرياً لكن مثل هكذا كلام هو بنفس الوقت مصادقة واقرار للنظام بنجاح مخططه بتحويل الثورة من ثورة سياسية شعبية للتغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولتحقيق دولة مدنية ديمقراطية تعددية تقوم على القانون والدستور إلى حرب طائفية وصراع هويات وجودية. حيث كانت خطة النظام لتحقيق هذا الهدف طوال السنة الماضية ضبط النفس في التعامل مع مظاهرات الكورد ومدينة السلمية والسويداء والأحياء والنشطاء ذوي الخلفية العلمانية أو غير الإسلامية بحيث لا يسفك الدم.. هم يعرفون أنهم لو فعلوا ما فعلوه بأهالي درعا وحمص وباقي المدن المنكوبة في تلك المناطق «غير السنيّة» لن يلقوا سوى اشتعالا ثوريا شبه إجماعيا ولايقل عما حدث بباقي المدن ولخسروا فزاعة “السلفيين”

صوتٌ مخنوقٌ يكاد يسمع من هؤلاء السوريين “غير السنيين”  نفديكم بدمنا وروحنا ولكن ما ذنبنا إذا تظاهرنا وكتبنا واحتججنا ولم يقتلنا النظام المجرم معكم؟

الخطاب الثاني مشابه للأول من ناحيه مصدره، أي السوريين غير الإسلاميين والعلمانيين، لكن يختلف عنه من حيث شريحته فمطلقه ليس الشعب الثائر والنشطاء بل رجال الدين والمثقفون. هم يتخوفون حيناً ويعترضون حيناً آخر على أسلمة الشارع الثائر، يعترضون فقط، دون التساؤل عن السبب وكيفية تغيير هذا الواقع أو يجيبون بإجابات استشراقية فارغة. لو أن رجال الدين في هذه الطوائف والملل ومثقفون كبار لهم جمهورهم العالمي قبل السوري والعربي دعوا طوائفهم وقراءهم ومستمعيهم ومشاهديهم للانخراط بثورة الحرية والكرامة وشاركوا معهم بالشعارات التي يحبون ويتمنون لمستقبل سوريا ترى هل كان الشارع اليوم «اسلاميا»؟ أعتقد جازمة لا

رغم بعض هذه الطروحات الإقصائية والإتهامية بين الحين والآخر إلاّ أن الثورة السورية تعرف جيّداً أبناءها الأبرار كما تراقب اليوم بحزن وغصّة أبناءها العاقين

الزعامة .. ومحاكم التفتيش

يكشف تاريخ سوريا الحديث، ما بعد الاستقلال، أن أحد أبرز مشاكل القيادة السياسية-العسكرية فيها كانت مشكلة «الزعامة»، لقد قاد التنافس المجنون على السلطة ولعبة المصالح وتصفية الرفاق لمرحلة من الانقلابات العسكرية ومن ثم للارتماء بحضن عبد الناصر الذي أسس لفكرة الزعيم الأوحد ولقوانين الطوارئ وحل الأحزاب التي راقت للبعثيين وعسكرهم بعدها

لنا في تاريخنا الحديث عبرة، ولنا من تجربة اثنين وأربعين عاماً تحت الاستبداد وثورة عام لأجل الديمقراطية وحرية التعبير أن ندرك أن مصلحة الوطن أولاً قبل مصلحة الأيديولوجية مهما كانت مقدسة، وأن الوطن يتسع للجميع والكرسي مداولة بيننا جميعاً. لدينا من السجون والحروب والانقلابات والقمع ما يكفي لندرك أنه من حق الجميع الاختلاف بالنظر للمسائل وأن الرأي الآخر ليس خيانة طالما لا يحمل بندقية ولا يطالب بقتلنا أو يكفرنا أو يخوننا. من حقنا أن نختلف على مستقبل سوريا لكن ليس من حقنا أن ننصب محاكم تفتيش لبعضنا البعض مديرين ظهورنا عن النظام القاتل والشعب المقتول

من مفارقات الثورة “المطمئنة” هو الفرق بين خطاب نشطاء الثورة بالداخل وبعض نشطائها ومؤيديها ومعارضيها من الخارج،  ترى لماذا يبدو كلام النشطاء من الداخل أكثر توازناً ونبلاً وعقلانيةً من القادة السياسين للثورة في الخارج وأكثر رحمة وحكمةً وتسامحاً وإيماناً من شيوخها؟ لماذا يتكلم هؤلاء المفجوعون بأهلهم وأبنائهم وأصدقائهم وأرزاقهم بكل هذا الهدوء والوعي بأهداف الثورة وغايتها؟ وكيف لازالوا يتذكرون بعد كل التعذيب في المعتقلات مبادئ الثورة ولماذا قامت؟ بينما من هم في الخارج أو وراء شاشاتهم وفنادقهم يولولون ويستصرخون داعين للثأر والتقطيع والإبادة مخونين ومكفرين الأخضر واليابس دون أن يروا نقطة دم واحدة أو تصلهم صفعة؟

الثورة في سوريا لم تعد خياراً .. بل قدراً

كما أنّ الولادة والموت قدر لا يمكن الفرار منه هكذا أصبحت الثورة في سوريا. ما يجري اليوم بسوريا ليس اختياراً بين سلطة وأخرى، وليس رغبة بتغيير نظام ولا احتجاج على وضع سياسي واقتصادي..الخ السوريون يعيشون موتهم اليومي ليثأروا للحياة فيهم وللأمل وللحب وللحرية والكرامة التي امتهنت، لا يمكن لأحد أن يقنع عشرات آلاف الأمهات والآباء بالتصفيق لقاتل أبنائهم ولا مئات الآلاف من الشبان والشابات الذين اعتقلوا وعذّبوا واغتصبوا بانتخاب أحد أزلام هذا النظام يوماً. لا يمكن لمن صرخ بصوت عالٍ في الشارع أن يعود «للوشوشة»، ولمن كسر وداس تماثيل وصور الطاغية أن يقبلها ويسجد لها. من عرف نشوة الحرية لن يعود لعذريته ومن عرف طعم الموت لن يخشاه مجدداً

السوريون اليوم لا يعيشون بسوريا بل بالثورة وكل ما عليهم فعله أن يحافظوا عليها وعلى أنفسهم فيها من جنون وهمجية العصابة ونهجها. أن يتذكروا، وإن كان يصعب أحياناً تحت الهجمة البربرية، أنه إذا كان النظام طائفياً ليس علينا أن نتحول إلى طائفيين لنسقطه.. إذا كان النظام شبيحاً ليس علينا التحول لشبيحة لنسقطه .. إذا كان النظام قاتلاً ومجرماً وسفاحاً ليس علينا أن نقتل ونقطع ونغتصب لنسقطه .. إذا كان النظام إقصائياً ويميز بين جماعته وباقي الناس ليس علينا أن نكون إقصائيين وعنصريين ونميز بين جماعتنا وباقي الشعب السوري لنسقطه .. وإلاّ كيف سنكون ثواراً وكيف ستكون ثورتنا للشعب السوري وكيف سنسقط العصابة لنبني الدولة

سنسقط النظام يوماً لكن لنحاول أن لا ننتهي كأشباه لمن ثُرنا عليهم

شاعرة وباحثة في جامعة السوربون الجديدة – Wednesday, March 14, 2012

https://www.facebook.com/notes/souriatna-%D8%AC%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%AA%D9%86%D8%A7/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A7%D9%82%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D9%8A%D8%B1/366281160072418