مقارنة محزنة بين تجربتَي الفلسطينيين والسوريين – ماجد كيالي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 21 avril 2014

على رغم اختلاف قضية السوريين عن قضية الفلسطينيين فإن تجربتهم السياسية، في الثورة، حملت الأعراض نفسها، وتعرّضت للمشكلات والتوهمات والانزياحات ذاتها تقريباً، مع أننا نتحدث عن فترة قصيرة تناهز الثلاثة أعوام. لنلاحظ، مثلاً، أن حركة «فتح»، التي قادت العمل الفلسطيني طوال العقود الخمسة الماضية، بادرت إلى إطلاق الكفاح المسلح من دون التمهيد لذلك سياسياً، ومن دون أن تنتظر كي تبني هياكلها التنظيمية، أو أن تهيئ شعبها لذلك.
ومع الأخذ في الاعتبار الأشهر الستة الأولى السلمية من الثورة السورية، واضطرار السوريين للدفاع عن أنفسهم في مواجهة العنف الوحشي الذي انتهجه النظام، فهذه الثورة بدت وكأنها ذهبت، أو أُخذت، نحو تغليب طابعها كثورة مسلحة على الأوجه الأخرى. والمشكلة أن هذا حصل قبل أن تشكل هذه الثورة قيادتها، وهياكلها، ومؤسساتها الوطنية، وقبل ان تحقق الإجماع في شأن مقاصدها وإجماعاتها، وهذان أي القيادة والإجماع، ما زالا في غياب حتى الآن.
والأهم أن هذه الثورة ذهبت نحو العمل المسلح، قبل ان يعقد إجماع شعبها حولها، وقبل أن تأخذه نحو العصيان المدني، مثلاً.
أيضاً، في مطلع السبعينات اتخذت القيادة الفلسطينية قراراً بتحويل الفدائيين من قوات حرب عصابات الى قوات منظمة وفق هيكلية جيوش، وباتت تقيم قواعد عسكرية ثابتة في جنوبي لبنان، مع ما لذلك من متطلبات التسليح والإمداد والتموين والتمويل والمتفرّغين. وبديهي أن هذه القوات ما كان بوسعها أن توازي قوة اسرائيل، أو تدافع عن الأراضي التي تقيم عليها قواعدها، بل إن جنوب لبنان بات وقتها مرتعاً للاعتداءات الإسرائيلية براً وبحراً وجواً، فيما انشغلت قوات العمل الفدائي، التي أضحت بمثابة جيش، بتلافي الضربات الإسرائيلية، على رغم خوضها معارك مشرّفة في كفرشوبا وراشيا وقلعة الشقيف وبنت جبيل.
لكن الأساس هنا أنها باتت في مواقع الدفاع بدل الهجوم، تتعرض للاستنزاف بدل ان تستنزف عدوها. وفوق هذا وذاك عرّضت أهالي الجنوب لمصائب وخسائر بشرية ومادية باهظة. وفي النهاية أخفقت في ما قامت من أجله، ما تجلّى بإخراجها من لبنان كله (في حرب 1982)، نتيجة عوامل متعددة، منها التخلّي عن استراتيجية حرب الضعيف ضد القوي، وعن استراتيجية حرب العصابات المتحركة، أو حرب الاستنزاف الطويلة الأمد، بإقامة قواعد ثابتة قرب المدن، بحيث أنها لم تبق قوات فدائيين ولم تصبح جيشاً.
المؤسف أن الأمر ذاته حدث مع الثورة السورية، إذ ذهبت الجماعات المسلحة، التي لا تخضع لقيادة، ولا لمرجعيات سياسية، موحدة، نحو حرق المراحل بتبني استراتيجية تحرير مناطق واسعة من سيطرة النظام. وكانت تلك النقلة، على أهميتها في كسر هيبة النظام، قفزة في المجهول، إذ حمّلت الثورة مسؤولية الحفاظ على الأمن في هذه المناطق، وتقديم الخدمات لسكانها، مع ما شاب ذلك من مشكلات أكلت من صدقية الثورة، ومن التفاف الناس حولها كبديل للنظام. كما نجم عن ذلك تحويل النظام هذه المناطق حقل رماية يمارس فيها سياسة العقاب الجماعي، وفق قاعدة
«الأرض ألمحروقة»، بحيث أضحت بمثابة مناطق محاصرة، يجري من خلالها «تأديب» المناطق الأخرى.
وبين هذا وذاك، أي عجز الجماعات المسلحة عن ايجاد إدارة ملائمة، ومطرقة النظام وبراميله المتفجرة، اضطر معظم سكان هذه المناطق للهجرة منها، والتشرد داخل سورية وخارجها، ما أدى إلى اختفاء الشعب من معادلة الصراع ضد النظام، وشكّل أكثر نقاط ضعف الثورة السورية والأخطر عليها.
هكذا، ففي الحالين السورية والفلسطينية تم تغليب العواطف والشعارات على حسابات الكلفة والمردود والجدوى السياسية، علماً أن العمل المسلح، مع كلفته البشرية الباهظة وتداعياته الخطيرة، يحتاج إلى إدارة عقلانية أكثر، وإلى التأسّس على الإمكانيات الذاتية (وليس على وعود خارجية)، وعلى قدرة الشعب على التحمل لا على الدخول في مغامرات أو الوقوع في استدراجات غير محسوبة، على نحو ما حصل مع الفلسطينيين في الانتفاضة الثانية، التي غلب عليها طابع العمليات التفجيرية، وما حصل في تجربة السوريين في السيطرة على مناطق واسعة.
فوق كل ذلك، ثمة مشكلة كبرى في العمل المسلح في الظروف الفلسطينية والسورية، إذ يحتاج إلى مصادر تسليح وتمويل وإمداد، وتغطية سياسية، وهي كلها تحتاج إلى دول، وهذه لا تشتغل، كما هو معلوم، كجمعيات خيرية أو كجهات تتبنى أجندة رسولية، ما يضعنا إزاء أجهزة استخبارات، ومال سياسي، وتوظيفات سياسية. والمشكلة الأخرى أيضاً، أنه كلما كانت الثورة أقل تحصيناً وأقل نضجاً وتنظيماً ومأسسة، ارتهنت أطرافها لتوظيفات وتلاعب هذه الجهة أو تلك، على حساب معاناة وتضحيات شعبها، وعلى حساب مقاصد ثورتها، وهو ما حصل في التجربتين الفلسطينية والسورية.
أخيراً، وبالنسبة إلى توهم الدعم الخارجي، نتذكر أنه في 1948 تُرك الفلسطينيون وحدهم في مواجهة العصابات الصهيونية، ولم تجدِ وقتها كل النداءات لنجدتهم، في الوقت المناسب، وكانت جملة «ماكو أوامر» التي انتصبت في وجه الشهيد عبد القادر الحسيني هي السائدة، بحجة ترك الأمر للأنظمة. لذا فعندما انسحبت قوات الانتداب البريطاني وأعلن قيام اسرائيل (1948) لم يكن بمستطاع الفلسطينيين مواجهة ذلك، ودخلت حينها قوات من جيوش بعض الدول العربية، الــتي لم تكن جيوشاً ولم تحارب حقاً، بل عمــدت إلى اخراج الفلسطينيين من مدنهم وقــــراهم بدعوى ان مناطقهم باتت ساحة معركة، وبذريعة حمايتهم.
وفي المحصلة فهذه الجيوش ساهمت في تمكين قيام إسرائيل على 77 بالمئة من أرض فلسطين، أي اكثر من الـ 55 بالمئة التي كانت مقدّرة لإسرائيل في قرار التقسيم، كما سهلت تهجير وتشريد معظم شعبها. وفوق هذين الأمرين فإن النظم العربية وقتها وأدت الكيان الفلسطيني الناشئ المتمثل بحكومة «عموم فلسطين»، ولم تمكّن الفلسطينيين من إقامة كيان سياسي لهم في غزة التي ألحقت بمصر، وفي الضفة التي ضمت الى المملكة الأردنية، وتمت معاملتهم كلاجئين، بطريقة غير لائقة، لا من وجهة المعايير الدولية الإنسانية ولا من وجهة نظر الأخوة العربية، وتم إسكانهم في مخيمات رثّة ونائية، على نحو ما يحصل للسوريين اليوم.