ممارسة التعذيب وجريمة المطالبة بالحرية! – عيسى مخلوف

Article  •  Publié sur Souria Houria le 30 septembre 2011

لا يتعب القاتل من القتل، ولا تتعب الشاشة الصغيرة من بثّ صور الجثث التي خضع أصحابها للتعذيب في هذا الربيع العربي الذي يُكتَب معه تاريخ جديد. لكن تواتر هذه الصور بشكل كابوسي، يوماً بعد يوم وشهراً بعد آخر، أصبح يشكّل جزءاً من حياتنا اليوميّة، بل خلفية لصحونا اليومي
فعل التعذيب الذي يحدث الآن كما حدث منذ بداية التاريخ، وبطريقة مماثلة في أحيان كثيرة، يدفعنا إلى طرح السؤال حول ما حققه التقدم الإنساني عبر العصور، وحول الوعود التي أطلقها بعض المفكرين الغربيين، بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بالنسبة إلى تمكّن الإنسان من السيطرة على مصيره والتحكّم بغرائزه والتخلّص من أشكال العبودية وجعل المجاعة أمراً من الماضي. جاءت تلك الوعود كصدى للثورة العلمية الكبيرة وللإنجازات التقنية الباهرة وأثرها في حياة البشر
منذ الحرب العالمية الأولى، تطالعنا أصوات كثيرة تتحدث عن انكشاف التقدّم الإنساني، وتعتبر أنّ المكتسبات الحضارية ليست معطيات ثابتة بل يمكن التخلّي عنها في كل لحظة، ويمكن أن يعود الإنسان إلى العصور الحجرية بلمح البصر. الحرب، بما هي حالة افتراس بين القوى المتنازعة، شكل من أشكال هذه العودة. لجوء بعض الأنظمة إلى التعذيب وجه آخر من وجوه الهمجيّة. واستمرار حدوث هذا الفعل الهمجي في العالم، أينما كان، يلطّخ بسواده الإنسانية جمعاء، ويضعنا دائماً بين موقعين: البربرية في موازاة الثقافة، هتلر أو غوته. الأول يمثّل رفض الاختلاف والعنف المطلَق، أما الثاني فيمثّل الدعوة إلى التعددية والحوار بين الشرق والغرب، بل وكافة الشعوب
صحيح أنّ المجتمعات الحديثة خرجت من حالة الإرهاب التي في وسع الدولة أن تمارسها ضدّ مواطنيها، ومن التعاطي معهم بصفتهم عبيداً ومن تعذيبهم أو قتلهم متى تشاء، لكن الصحيح أيضاً أنّ بعض هذه المجتمعات التي ينعم أهلها بقوانين تحمي المواطن وتقرّ بحقه في الحياة، لا تزال تتحكم بمصير مجتمعات أخرى، وتجيز الاحتلال الإسرائيلي، وتسمح لنفسها بفتح سجون من طراز سجن أبو غريب في العراق

تاريخ التعذيب

الذي ينظر إلى الشاشة الصغيرة هذه الأيام وتطالعه الجثث المثقوبة بالرصاص والمشوّهة تحت التعذيب، ألا يفكّر لحظة واحدة في جسده؟ ألا يحاول أن يتبيّن وجهه ويديه أمام مشاهد الوجوه النازفة والأيادي المحروقة؟ ألا يتفقّد حنجرته أمام صورة الحناجر التي جزّت؟ ألا يتلمّس جلده أمام مشهد الجلود المسلوخة؟ ألا يتساءل، أخيراً، عن معنى الحياة أمام هذا الموت الكثير وهذا الرعب الأفدح من الموت؟
يحفل تاريخ البشرية بالتعذيب والإذلال منذ البداية، قبل السومريين وبعدهم، مع الفراعنة وحتى اليوم مروراً بالفرس والعرب والإغريق والرومان. ولقد شرّعت هذا العنف بأبشع صوره الأديانُ التوحيدية الذكوريّة نفسها، كما عملت على تكريس دونيّة المرأة وسيادة الرجل عليها. من الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية في القرون الوسطى إلى النازية وصولاً إلى طغاة اليوم، لا يزال لجوء الإنسان إلى تعذيب شبيهه يشكّل ملمحاً مظلماً وغامضاً في طبيعة البشر
كان الرومان يعذّبون العبيد فقط، وهؤلاء لم يكن يُنظَر إليهم بصفتهم بشراً. الذي يقوم بفعل التعذيب، ويتلذّذ به، يتعاطى مع الآخر بوصفه حيواناً يساق إلى الذبح. طبقاً للقوانين الرومانية، تمّ صلب ألوف البشر. وإمعاناً في الإهانة والإذلال، كان المصلوب يُعرَض أمام المارة، وكانوا يبصقون عليه أو يقتربون منه ويصفعونه على وجهه. في بعض الأحيان، كان الجلاّد يلجأ إلى تكسير عظام المحكوم عليه ليزداد عذابه. وكان المسيح أشهر المصلوبين في الزمن الروماني وفي الأزمنة كلّها. حُكم عليه بالجلد ثمّ بالموت صلباً بعد أن اتُّهم بالإخلال بالنظام العام. سُمّرت يداه وقدماه، كما ربطت بالحبال حتى لا تتمزّق أنسجتها وينشقّ الجلد، وحتى تطول فترة المكوث على الصليب من أجل تمديد فترة العذاب
وإذا كان الإمبراطور الروماني كونستانتين الأول ألغى عقوبة الصلب عام ٣١٣ بعد اعتناقه المسيحية، فلقد استمرّت وسيلة التعذيب والقتل هذه. عُذِّب الحلاّج وصُلب. وأقدمَ الحجّاج على صلب الأشخاص المعارضين له بعد قطع رؤوسهم. لجأ النازيون في الحرب العالمية الثانية إلى هذه الوسيلة أيضاً، كما أجروا اختبارات طبّية على الأجساد المصلوبة
يتحدث هادي العلوي في كتابه « تاريخ التعذيب في الإسلام » عن هشام بن عبد الملك في الشام وطريقته في القتل من خلال قطع الأيدي والأرجل وكذلك من خلال الإعدام ذبحاً كما جرى لاحقاً مع حركة طالبان. ونقلاً عن الطبري أنّ « عدد من أعدمهم أبو مسلم الخراساني في المشرق بلغ ستمئة ألف بين رجل وامرأة وغلام. وكان إبراهيم الإمام، زعيم الدعوة، قد كتب إليه بقتل أي غلام بلغ خمسة أشبار إذا شك في ولائه ». ويروى أنّ المنصور قتل البعض بدفنهم أحياء، وأنّ انتزاع الاعترافات في الحقبة العباسية الأولى كان يتمّ بضرب المتهم باليد أو السوط. وفي الأندلس، أيام ملوك الطوائف، انتشرت عادة حمل الرؤوس المقطوعة، ومن أبرز الذين مارسوا هذا الطقس المرعب المعتمد بن عباد، صاحب أشبيلية، وهو شاعر أيضاً، وكان أقام في قصره حديقة لزرع الرؤوس المقطوعة. بشّار بن برد جُلد حتى الموت بأمر المهدي بعد أن هجاه، وأُعدم عبد الله بن المقفع حرقاً بأمر سفيان بن معاوية. وقد طوّر العباسيون في وقت لاحق هذا الفنّ إلى شَيّ الضحايا فوق نار هادئة. ويخبر البلاذري في « فتوح البلدان » أنّ خالداً بن الوليد أحرق بعض المرتدين بعد أسرهم وأنّ اعتراضاً من الصحابة ضدّ هذا الإجراء قُدّم لأبي بكر الذي قال: « لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكفار »
تكشف الوقائع كيف كانت الأديان عبر التاريخ أعذاراً لتبرير العنف والوحشية التي يمارسها الطغاة، وكيف تحولت مصدراً للإرهاب، فضلاً عن أنّ قانون العقوبات في الأديان التوحيدية هو صورة لهمجية تفوق الوصف. يكفي أن نذكّر هنا بالجرائم التي اقترفتها الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا في القرون الوسطى وبمحاكم التفتيش التي دامت طويلاً في أسبانيا، وكان ضحاياها أبرياء تعرّضوا لأبشع أنواع التعذيب لا سيما الضرب والحرق. ولقد وعى فلاسفة عصر الأنوار البعد الغيبي الظلامي لهذا النهج المعادي للتقدم والمعرفة ودعوا إلى محاربته من خلال الفكر العقلاني. ولم يتوقّف الإرهاب الديني إلاّ مع تراجع سلطة الكنيسة وظهور الدول العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة. لكن، حتى بعد أن تقلصت السلطة الكنسية، استمرت الممارسات الرهيبة التي قام بها رجال دين أمعنوا في اغتصاب الأطفال، بعد أن اغتصبوا كلمات المسيح: « دعوا الأطفال يأتون إليّ ». وهذا ما يدفعنا، في مثل هذه الحالات القصوى، إلى تذكّر ما قاله نيتشه: « كان ثمة مسيحيّ واحد وصلبوه »
في هذا السياق أيضاً، نشير إلى الدعوى القضائية التي قدمتها مؤخراً إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي منظمتان أميركيتان (« ضحايا الاعتداءات الجنسية » و »مركز الحقوق الدستورية ») ضد البابا بندكتس السادس عشر وضد بعض الكرادلة المقربين منه، وذلك « لسماحهم بارتكاب الجرائم الجنسية ضد الأطفال وحمايتهم طوال عقود للضالعين فيها »
من القارة القديمة إلى القارة الجديدة، وبعد مضيّ خمسين عاماً على « اكتشاف أميركا »، وضع الراهب الدومينيكاني الإسباني برتولوميه دي لاس كاساس، كتاباً بعنوان « الحكاية المختَصَرة جداً لتدمير بلاد الهند ». يدين الكتاب المعاملة الوحشية التي خضع لها الهنود الحمر، وقد جاء فيه: « أهالي سانتو دومنغو فقراء. يملكون القليل ويشيحون النظر عن الممتلكات الزمنية. دخل عليهم الأسبان كالذئاب والأسود الجائعة. قتلوهم ودمّروا حياتهم. هكذا فعلوا أيضاً بكوبا وبجزيرة سان خوان وجامايكا وجزر أخرى كانت كثيرة الخصوبة والجمال… تعاملوا معهم بطريقة أسوأ بكثير مما يتعاملون مع الحيوانات ». يضيف دي لاس كاساس: « ابتكر الأسبان أشكالاً جديدة من التعذيب لإجبار الهنود على العثور على الذهب. كانوا يضربونهم بسيوفهم، يحرقونهم أحياء ويرمونهم للكلاب المفترسة. يغتصبون النساء، يبقرون بطونهنّ ويعذّبون الأسرى حتى الموت »

 التعذيب راهناً

ما نعيشه ونشاهده اليوم يمثّل خلاصة مكثّفة للتعذيب الجسدي والنفسي عبر العصور. من سلخ الجلد، الذي يعكس نزعة سادية مطلقة، إلى الجلد بالعصي والسياط وتكسير العظام واقتلاع الأظافر والحرق وقطع الأوصال. وتهدف بعض الممارسات البدائية إلى إهانة الإنسان وإذلاله والحطّ من قدره (صَفْعُ الوجه، الركل والشتم، وَضْعُ الحذاء فوق الرؤوس والرقاب…)، وهذا ما يتنافى مع جميع القوانين والتشريعات الحديثة
في كتاب بعنوان « أن تُراقِب وتُعاقِب » يؤرّخ الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو للسجون في فرنسا ولممارسات التعذيب بين القرن السادس عشر وبداية القرن التاسع عشر. يصف التعذيب وأدواته بأدقّ التفاصيل. ويلاحظ كيف تمّ الخروج من أقبية القرون الوسطى حين وُضعت مجموعة أنساق وقواعد يجري بموجبها التعامل مع جسد المتّهَم. في القرن الثامن عشر، وهو قرن الحريات في فرنسا، انتهى التعذيب وتغيّرت طبيعة التعامل مع المتهمين والمجرمين مهما كانت جريمتهم. كان فيكتور هوغو يقول: « إذا كان القرن الثامن عشر هو قرن إلغاء التعذيب، فإنّ القرن التاسع عشر سيكون قرن إلغاء حكم الإعدام ». غير أنّ أمنية هوغو انتظرت زهاء قرن من الزمن لكي تتحقّق. وبعدما تحققت (مطلع الثمانينيات من القرن الماضي) بات يُنظَر إلى أدوات التعذيب والقتل على أنها انعكاس لبربرية بائدة طبعت قروناً من تاريخ البشر
كان هتلر يردد أنّ النازية ستحكم أوروبا لفترة ألف عام، لكنها لحسن الحظ لم تدم أكثر من أربعة أعوام، وكانت على أي حال كافية لكثير من الخراب. أما هتالرة (جمع هتلر) العالم العربي فتمكنوا، بمساعدة بعض الدول الغربية الكبرى، أن يستأثروا بالسلطة قرابة النصف قرن ويحكموا على شعوبهم بالبقاء خارج الزمن الحديث.
منذ الاستقلالات الوطنية، تحولت المجتمعات العربية مع الأنظمة الوراثية إلى معتقلات كبيرة. لم تفتح هذه الأنظمة مدرسة ولا جامعة ولا مركز بحوث بالمعنى الفعلي للكلمة، بل انتصرت للجهل وتعاملت مع الأوطان بصفتها ملكية خاصة. بعض هذه الأنظمة حارب التطرف الديني فيما كان يعمل على خلق التربة الملائمة لنموّه
أن يولد المرء في ظلّ حكم قمعي – مجرّد أن يولد -، مجازفة. هنا كل إنسان عرضة للسجن أو القتل أو الإقصاء. والتعذيب الذي لا زال يمارَس اليوم، في القرن الحادي والعشرين وعلى مرأى من العالم أجمع، يعكس نزعة انتقامية وحقد على الإنسان بالمطلَق. ففي مملكة الطاغية كلّ شيء ممنوع إلاّ التسبيح بحمده، الواحد الأحد، الضابط الكلّ. الرعاع والعبيد مُلْكه. وملكه مقدرات الدولة ومقوماتها وثرواتها. في خدمته الدين والدنيا، وجيش من المخبرين ومن جلاّدين محترفين يملكون أسلحة القهر والإذلال. يَعتقلون ويعذّبون لانتزاع اعترافات بالجريمة، جريمة المطالبة بالحرية

السفير – ٣٠ أيلول ٢٠١١

http://www.assafir.com/WeeklyArticle.aspx?EditionId=1965&WeeklyArticleId=83743&ChannelId=11058&Author=عيسى-مخلوف#.ToWeEbzZ8YY.facebook