ميزان الذهب الحوراني – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 24 février 2014

هو الشاعر العربي صاحب القول البليغ والمأثور، الذي كانت الحداثة الشعرية العربية بأمسّ الحاجة إلى اقتباسه مرّة بعد مرّة! دخل على الخليفة المتوكل، فمدحه بقصيدة جميلة، لكنّ أحد حاسديه أراد أن يحطّ من شأنه، فسأله على الملأ: ‘لِمَ تقول ما لا يُفهم’؟ وردّ الشاعر الكبير: ‘ولِمَ لا تفهم ما يُقال’؟ شائع، على نطاق واسع، أنّ القائل هو أبو تمام حجر بن أوس الطائي؛ ما هو أقلّ شيوعاً، في المقابل، أنّ السائل لم يكن حاسداً عادياً، وزيراً أو والياً أو تاجراً، ولم يكن من بسطاء العامّة كما جرت العادة، بل كان فيلسوف العرب الأشهر أبو يوسف يعقوب الكندي!
أغلب الظنّ أن الفيلسوف اعترض على الغموض في أبيات مثل هذه:
والحمد بُردُ جَمالٍ اختالت به/ غُرَرُ الفعال وليس بُردَ لباسِ
فرعٌ نما من هاشم في تُربةٍ، كان الكفيء لها من الأغراس
لا تهجرُ الأنواءُ منبتَها ولا/ قلبُ الثرى القاسي عليها قاسي
وكأنّ بينهما رضاع الثدي من/ فرط التَصَافي أو رضاعَ الكاسِ
فماذا كان الكندي سيقول عن حركة التخييل وطلاقة المخيّلة في هذين البيتين، من أبي تمام أيضاً، اللذين أعتبرهما شخصياً في عداد أبدع ما جادت به قريحة شاعر عربيّ قديم:
تاهَتْ على صورة الأشياء صورتُه/ حتى إذا كملت تاهت على التيه
ما استُجمعت فِرَق الحسن التي افَتَرقتْ/ عن يوسف الحُسنِ حتى استُجمعت فيهِ
ولقد ألحّ عليّ شخص أبي تمام، وشعره، قبل أيّام؛ حين سألني صديق فرنسي، وهو يتأمّل تركيبة وفد النظام إلى جنيف ـ2: هل يتقصد بشار الأسد إهانة حوران، تحت ستار مداهنتها، حين يرسل اثنين من أبنائها لكي يمثّلوا نظامه في جنيف؟ كان الصديق يشير، بالطبع، إلى وزير إعلام النظام، عمران الزعبي؛ ومساعد وزير الخارجية، فيصل المقداد؛ والأرجح أنه نسي، أو تعمّد تناسي، الإشارة إلى الحوراني الثالث، وائل الحلقي، رئيس الوزراء، وابن مدينة جاسم… مسقط رأس أبي تمام! من جانبي، كيف كان لي أن أنسى مآثر هذه البلدة منذ تباشير الانتفاضة، في 18/3/2011؛ مروراً باجتياح قوّات النظام لها، في أيار (مايو) من العام ذاته؛ وحتى تحريرها، في مثل هذه الأيام من السنة الماضية، وتعرّضها بعدئذ لحملات قصف وحشية منهجية ومتواصلة.
وسيرة أبي تمام، ابن جاسم والشاعر الكبير المجّدد، تدفعني إلى إلقاء تحية خاصة على كتاب بالغ الأهمية، عنوانه ‘أبو تمام وشعريات العصر العباسي’، للمستعربة والناقدة الأمريكية، الأوكرانية الأصل، سوزان ب. ستيتكيفيتش. ورغم بعض تحفظات مبدئية حول اعتماد منهجية التأصيل الأنثروبولوجي لجذور الشعر العربي القديم، فإنّ هذا العمل يظلّ الدراسة الكلاسيكية الأبرز، ولعلّها الأعمق أيضاً، في أية لغة أوروبية. ستيتكيفيتش توافق أنّ أبا تمام كان من أهمّ شعراء العصر العباسي، ولكنها تجزم أيضاً أنه كان الأبرز في استخدام البديع، الأمر الذي جرّ عليه موجات من النقد حيناً والإعجاب المبطّن بالحسد حيناً آخر.
وهي تستفيض في مناقشة معنى البديع في شعره، وتساجل على نحو مقنع بأنّه لم ينهض على الصنعة والتكلّف أو التجميل الشكلاني، وكان توظيف الكناية والاستعارة ركناً أساسياً في الطراز الفكري الذي نهض عليه شعره، وجزءاً مكوِّناً في العمارة الوصفية التي أعطتنا أعظم نماذج قصائده. كما يستهويها أن تستقصي المحيط الأسطوري الذي اكتنف شعر أبي تمام، ورموزه الكونية (السيف، الفرس، الخباء…)، وعناصر بيئته الطقسية ـ الروحية (الفصول، المطر، العواصف…)؛ فضلاً عن أغراضه التي أقامت ميزان ذهب، نادراً، بين المديح والرثاء.
وهذا، وليس الحلقي أو المقداد أو الزعبي، هو ابن حوران البارّ وممثّلها؛ أسوة بالغالبية الساحقة من بناتها وأبنائها، ممّن يحقّ لهم التفاخر بأبي تمام، وبأبيات أخرى بديعة حفظها التراث الشعري العربي في مديح حوران، قالها أمثال امرىء القيس وحسان بن ثابت والفرزدق والراعي النميري وسواهم. ثمة أيضاً، وبالطبع، النابغة الذبياني، الجولاني جار الحوارنة، وصاحب الأبيات الخالدة:
دعاكَ الهوى واستجهلتكَ المنازل/ وكيف تَصابى المرء والشيب شامل
بكى حارثُ الجولان من فَقدِ ربِّهِ/ وحَورانُ منهُ موحشٌ متضائِلُ
فآبَ مضلّوه بعينٍ جليّةٍ/ وغُودر بالجولان حزمٌ ونائلُ
وعلى سبيل استكمال متعة الحكاية الأولى، أسوق في الختام تفصيلاً ثانياً لما جرى بين أبي تمام والكندي. كان الشاعر قد بلغ هذا البيت في المديح:
إقدام عمرو في سماحة حاتم/ في حلم أحنف في ذكاء إياس
حين قاطعه الفيلسوف قائلاً: ‘الأمير فوق ما وصفت’. أطرق الشاعر قليلاً، ثمّ أجاب:
لا تذكروا ضربي له من دونه/ مثلاً شَروداً في الندى والباسِ
فالله قد ضرب الأقلَّ لنوره/ مثلاً من المشكاة والنبراس
الأرجح أنّ سجلات التاريخ لم تحفظ لنا إطراقة الفيلسوف، بعد ‘ضربة المعلّم’ التي سدّدها الشاعر؛ ولا ريب أنها لن تُفرد، في حوليات ذاكرة حوران المجيدة، أيّ ذكر لحوارنة خونة، رقصوا على أشلاء درعا ونوى وإنخل والصنمين وإزرع والحراك وجاسم… واسترخصوا الارتزاق عند الطاغية.