يوسف عبدلكي حصان الحرية السوري المخطوف – إبراهيم الجبين

Article  •  Publié sur Souria Houria le 24 juillet 2013

ضجة كبيرة أثارها في العالم العربي خبر اعتقال الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي، قبل أيام، في طرطوس-سوريا. ويعتبر عبدلكي واحدا من أشهر الفنانين السوريين المنفيين بسبب نشاطه الفني وآرائه السياسية، وقد قضى ربع قرن من حياته في فرنسا، قبل أن يعود إلى وطنه قبل بضع سنوات ليؤسس في دمشق مشغله الفني. هنا مقال حول تجربته الفنية وسيرته الشخصية.

لم يُشفَ السوريون من يوسف عبدلكي يوما، ولم يبرأ هو من سوريا التي سكنته وشغلت تفاصيل لوحاته منذ أكثر من أربعين سنة، هي سنوات اتجاهه نحو التعبير بالرسم، والصورة، والخط، وهو الذي اجتهد أكاديميا ليتحدى أساتذته في فن الحفر، واختار أصعب التقنيات لأعماله التي تتالت تروي توق الشعب إلى الحرية ومقاومة الاستبداد. فكانت بدايات تجربة يوسف عبدلكي، مع رسومات الأطفال والكاريكاتير والتي شجعه عليها والده السياسي المعروف وهو بعد لم يتجاوز عقده الأول من العمر، فرسم لمجلات الأطفال، وبدأت ملامح شخوصه ووجوههم بالظهور منذ تلك المرحلة، في زمن كانت قامات كبرى تسيطر على المشهد التشكيلي السوري، لؤي كيالي بفرادته وفاتح المدرس بانفلات لوحته من المعايير العربية التي وسمت أعمال الرواد، ومجايلون أتوا من الجزيرة السورية ذاتها، لم يكونوا أقل حماسا من عبدلكي، عمر حمدي، بشار العيسى، علي فرزات، وأصبح لكل من هؤلاء مسار خاص فيما بعد.

في ذلك الوقت كان عبدلكي يتعلّم، ويبحث، دون أن يتوقف عن التجريب، وصدرت له بعض الدراسات، منها (تاريخ الكاريكاتير في سوريا) في العام 1975، ثم أنهى دراسته في كلية الفنون الجميلة بدمشق بمشروع تخرّج أثار ولم يزل الكثير من الاهتمام من قبل دارسي الفن التشكيلي ورسالة الفن عموما في المناخات التي عاشها ويعيشها الشرق الأوسط. كانت ثلاثية يوسف عبدلكي (أيلول الأسود) هي مشروع التخرج، ثلاث لوحات هائلة الحجم كتب أسفلها يوسف عبدلكي (بقلم الرصاص) تحشد تفاصيل مرعبة لما تعرض له الفلسطينيون في تغريباتهم المتكررة.

التجريب الفني عند عبدلكي بحث دائم عن معنى بكر

وقد روى لي يوسف عبدلكي في ليل دمشق العميق يوما، كيف تمت سرقة  تلك اللوحات الثلاث على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي أثناء اجتياح بيروت، وقد كانت اللوحة معروضة في مركز فنون فلسطيني وقتها، فنقلت إلى داخل الأرض المحتلة. وكان ليوسف عبدلكي أن يصنع من قلمه الرصاص ذاك، أسطورة في الحياة السورية، ليس فقط لأنه ذهب باتجاه الفن السياسي، بل لأنه التزم  بنقل المفاهيم والهموم  السياسية إلى المستوى الرفيع فنيا الذي أراد الوصول إليه من خلال بحثه وتطوير تقنياته.

الموت في اللوحة انتصار في الحياة

ومن أجل أن يكون للأسطورة كائناتها، اختار عبدلكي، ابن الجزيرة السورية، البادية والنهر والسهول الممتدة،  حصانا عربيا برقبة طويلة منحنية، ليكون رمزا للفكرة، وكائنا بديلا عن الكائن، فكان العاشقان حصانين، وكانت الثورة حصانا، وكان الحزن حصانا، يحيط بكل ذلك سوادٌ وعتمة، لم تترك لدى المتلقين أثرا كئيبا بقدر ما سلّطت الضوء كلّه على الفكرة، وعلى اللحظة التي يخطفها يوسف من العالم السوري من حوله، لا لينقلها إلى اللوحة وحسب، بل ليعيد كتابتها وسردها كحكاية جديدة، تقولها اللوحة ويتممها المشاهد بما لديه من صوت مقابل.

ولم تمض خمس سنوات حتى ما قبل بداية الثمانينيات حتى أصبح يوسف عبدلكي حاضرا بين السوريين، بحيث أنه كان من النادر أن يشتهر رمز كما اشتهر حصان يوسف عبدلكي، ومن المألوف أن يبحث عناصر المخابرات السورية عن طريدة سياسية غير البيانات السرية وأسماء المنظمين إلى الأحزاب المحظورة.

ولكنهم كانوا يبحثون مع ذلك كلّه عن رسومات عبدلكي التي بدأت توزّع سرّا بين اليساريين السوريين، وكان اقتناؤها جرماً في أعراف نظام حافظ الأسد الأمني.

اعتقلت المخابرات السورية يوسف عبدلكي أول مرة ( 1978 – 1980 ) ، وقضى فترة اعتقاله في صنع الحمائم الصغيرة من بقايا الخبز الذي يوزّع على المساجين، بعد أن يخلطه بقطرات الماء ليصبح صلصالاً بين يديه، (وقد عثر بعد عودته إلى سوريا بعد أكثر من 25 عاماً على إحدى تلك الحمائم العجينية الصغيرة محفوظة عند إحدى سيدات دمشق) وخرج يوسف من السجن ومن سوريا إلى المنفى الفرنسي، ليتابع تجاربه البصرية والإنسانية، ويتمم دراساته دبلوم  في الحفر  من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام  1986ثم الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة عام 1989، ولينتقل بعد أن غادر المكان الذي لم يكن يرسم بشره بشرا وإنما خيولا وطيورا، إلى حيث أصبح يراهم جيدا وعاد إلى رسمهم من جديد بتفاصيل بشرية وإن كانت محوّرة وبمعايير عبدلكي التشريحية، في (أشخاص 1989 ـ1995) مجموعة لوحاته الغرافيكية التي وصلت مشحونة إلى دمشق وحدها، لتعرض في صالة من صالات المدينة.

قضى الفنان فترة اعتقاله في السبعينات بصنع الحمائم الصغيرة من بقايا الخبز

تخطيط يوسف عبدلكي: بريشة جمال الجراح

بينما كان عبدلكي على بعد آلاف الكيلومترات عن زائري معرضه، بدأ اللون والكولاج يتقدّم في مساحة اللوحة، لا ليلغي الأسود والأبيض العتيق والخاص برؤيته للعالم، ولكن ليؤكد على حرارة افتراق الرسام عن مسرحه الذي لم تغادره روحه يوما، وإن أجبر على الابتعاد عنه، وحرم من حمل جنسيته السورية وجواز سفره، بينما لم يقبل طيلة ربع قرن أن يحمل الجنسية الفرنسية أو غيرها، في التزام ثابت وصارم وحاد يطابق التزام الحفارين بالأدوات الحادة والزنك والقسوة في الخط.

فانتقل الوعي من الترميز الثوري المندفع، في الأعمال السبعينية، إلى الإعلانات المباشرة، والتي عبّر عنها صراحة في التلصيق المتكرّر لقصاصات الصحف على مساحات لوحات المجموعة الجديدة (أشخاص) وكان العنف قد بدأ يظهر أكثر على وجوه أولئك الأشخاص، وهم تارة جنرالات وتارة أشخاص عاديون، وتارة هم وجوه، مجرد وجوه.

ثم وصل عبدلكي إلى المرحلة الثالثة والاكثر نضجا (كي لا نقول حكمةً) في السياسة والفن على السواء، حين اختار البدء في أعمال (الطبيعة الصامتة) والتي لم تكن صامتة على الإطلاق، فقد ابتعدت أصوات الخيول والطيور والأشخاص، واختفى الكائن الحر، ليحلّ محله أثر الكائن، متجسدا في حذاء امرأة أو بصلة ملقاة جانبا أو رأس سمكة مقطوع، أو مسمار في خشبة، ولكل من تلك المفردات ما تقوله في لوحاتها العملاقة الخاصة المرسومة بالفحم، غير أنها لم ترد أن تقول شيئا، وكانت تنتقل من الحكايات إلى اللقطات إلى اللاشيء، حيث التوقّف والجمود في ما تراها معلّقا على الحائط، ولكن ليس في حياة الفنان ذاته، فقد قرّر يوسف عبدلكي العودة إلى سوريا، في عزّ اشتداد القبضة الأمنية لنظام بشار الأسد بعد وأد ربيع دمشق، وكان العام 2005 هو عام اختيار يوسف عبدلكي الهبوط من اللوحة إلى الحياة من جديد.

عاد يوسف عبدلكي إلى دمشق، واتخذ لنفسه مرسما في أحد أحيائها العتيقة، محيطا ذاته بحمائم غير تلك الحمائم التي كان يصنعها من خبز السجن، حمائم حيّة، تؤنس أوقاته الدمشقية وهو يترقب طير البرق الذي رسمه في لوحة من زمن السبيعنيات وأطلق على اللوحة عبارة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب (يا طير البرق تأخرت)

الفنان وطيوره الشهيدة

يا طير البرق

أخذت حمائمَ روحي في الليل

 إلى منبع هذا الكون

 وكان الخوف يفيض

وكنت عليَّ حزين

وغسلت فضاءك

في روح أتعبها الطين

 تعب الطين

أشخاص بين الظل والنور

وواصل يوسف انتظاره طير البرق، مراقبا التحولات السورية، دون أن يتوقف عن التساؤل عما يقوله رأس  خروف بالفحم، أو بماذا يهمس شريط منفلت من حذاء امرأة بكعب عال، أو سمكة، أو موزة، ولكنه كان قد قرّر أن يتحدّث بنفسه بداية من تلك اللحظات، فاعتذر عن قبول تكريم معهد الاستشراق الفرنسي في دمشق. وقال على المنصة:(لا أظن أنني أستحق هذا التكريم، ومن يستحقه فعلاً هو المناضل السوري عماد شيحة زميل السجن الذي قضى أكثر من 29 عاما في سجون البعث الديمقراطية!).

أحصنة الحرية

وعاش يوسف عبدلكي ست سنين قبل تفجّر الثورة السورية، متنفسا هواء دمشق الصافي، في مرسمه في ساروجة، حيث علّق خلف كرسيه صورة بالأبيض والأسود للدكتور عبدالرحمن الشهبندر الزعيم السياسي السوري، والذي كان يمثل ثورة كاملة لوحده، ولم يتغلب عليه خصومه الداخليون والخارجيون إلا بإسكات صوته تماما  فاغتيل في عيادته في دمشق العام 1940. ورفض يوسف بشدة في العالم 2010 أن يكون على رأس هيئة عليا يصدر أسماءها بشار الأسد بمرسوم جمهوري، ويكون من مهامها الإشراف على أكبر مراكز الفنون البصرية والسمعية في سوريا وتطويرالحركة التشكيلية السورية، وقال إنه لا يستطيع أن يقبل بهذا بينما رفاقه ما زالوا في سجون الأسد.

انداحت ألوان الدم أمام عيني عبدلكي على الأرض السورية،… العنف والقصف والتفجير والرصاص، وقرّر يوسف البقاء في دمشق، منضما إلى الثورة السورية التي كان من صنّاع وعيها ربما قبل أن يولد جيل الشباب الذين تظاهروا في شهورها الأولى سلميا ومدنيا، وقال يوسف إنها فاجأته (فوجئت، لأنه خلال فترة طويلة، ظننت أن جملة التعقيدات المتعلقة بالمجتمع السوري، والتركيبة الدينية الموجودة من جهة، وعدم حيادية مؤسسة الجيش من جهة أخرى، كلها عوامل يمكن أن تؤخر هذا الحدث، لكن لحسن الحظ أن شجاعة البشر هي أفضل وأرقى من توقعات المراقبين، ومن ينظرون ببرود، للعناصر المحيطة بأي مجتمع) فعاد إلى تطوير مشروعه من جديد، وبدأت شخوص بالعودة إلى الحياة، مع استعمال كل التقنيات التي ابتكرها لذاته، مستلهما الحدث السوري، والأغنية، والماضي، والشهداء، والمناطق، والرموز، فتداخلت عوالم يوسف عبدلكي ما بين الكاريكاتير والتخطيط والرمز والغضب اللوني والأبيض والأسود، وكانت الثورة تدور هناك…

القبضة المبتورة

في لوحاته الجديدة، أما هو فاحتفظ لنفسه بمكان آمن يسمح له بالتأمل والمناورة السياسية، فاختار هيئة التنسيق السورية، الفصيل السياسي صاحب الرؤية الأقل حدة بين جماهير الثورة السورية الغاضبة. وحين اعتقلت المفارز الأمنية السورية يوسف عبدلكي في 18 من تموز 2013 الجاري، كانت إنما تعتقل لوحاته التي لا حدود لثورتهــا ولا إطارات ولا أقفــاص لطير البرق.