إلحاح ممدوح عدوان – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 7 juillet 2014

لا تكفّ الضرورات البحثية، خاصة تلك المتصلة بالشعر السوري الحديث والمعاصر، عن إعادتي إلى كتابات ممدوح عدوان (1941ـ2004)؛ وأقصد تأملاته النقدية، هنا، وليس الشعر أو المسرح أو الرواية، فهذه أعود إليها من إلحاح يومي على إشباع الحاجة إلى الإبداع. هذه هي الحال مع فصول «هواجس الشعر»، الكتاب الذي صدر سنة 2007، عن «دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع»، في 240 صفحة.
وأعترف أنني، حين قلّبت صفحات الكتاب للمرّة الأولى، عند صدوره ذلك العام، اكتشفت أنّ العديد من مقالاته كانت جديدة عليّ تماماً؛ في مستويين: الأوّل هو أنني لم أقرأها من قبل، لتقصير فادح تقع مسؤوليته على عاتقي بالطبع، ولأنها ربما نُشرت في دوريات سورية أو عربية محلية لم يكن الاطلاع عليها متاحاً لنا في منافينا، والمستوى الثاني هو أنها عرّفتني على المزيد من سجايا عدوان، الناقد هذه المرّة، رغم أنني لم أتوقف عن الاهتمام بآرائه في الشعر والأدب منذ مطالع سبعينيات القرن الماضي، ما وسعتني الوسائل بالطبع.
والكتاب يضمّ شهادات حول عدد من الشعراء، السوريين والعرب، أمثال علي الجندي ومحمد عمران وشوقي بغدادي وعبد الله البردوني وعرار (مصطفى وهبي التل) ونديم محمد ونزار قباني (وعنه يقول عدوان، في عبارة مدهشة: «لقد تحوّل إلى متراس عنيد أمام مَنْ يرون في الحداثة تغريباً للفنّ عن الناس وتضييعاً للمعنى. ودعا إلى الشعر الذي يتحوّل إلى قماشة شعبية يستطيع الناس كلهم أن يتداولوها ويلبسوها»)، ومحمد الماغوط وسنية صالح ولقمان ديركي، ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وأمل دنقل وبدوي الجبل.
وفي هذه الشهادات الكثير ممّا هو رفيع نقدياً، وممّيز معرفياً، وشجاع فكرياً، و… طريف إنسانياً ايضاً! هنا، مثلاً، ما يقوله الراحل عن شعر رضوان السح (شاعر سوري شابّ قدّم عدوان لمجموعته الأولى «طفل المعاني»): «هل تحبّ أن تأكل اللوز الأخضر؟ تتذكّر «قرشته» الغضة تحت الضرس؟ وحموضته الطرية التي يتحلب لها اللسان؟ هنــــاك من لا يحبـــــّون اللوز الأخضر. ينتظرون اللوز اليابس، اللوز الذي يُقدّم محمّصاً على الموائد. ولكن اللوز الأخضر لا بدّ منه (…) هو ذا شعر مثل اللوز الأخضر. شعر فيه حموضة طرية يتحلب لها اللسان وله قرشــــة غضـــة. شعر فيه عذوبة أن تكتب، أو تقرأ، شعراً. وفيه بساطــة، وروعة، أن تكون شاعراً، أو أن تتعامل مع الحياة بالشعر، وأن تراها بعين الشاعر».
ولكن، إلى جانب هذه الشهادات، ثمة عشر مقالات لامعة تماماً، ونقدية في أرقى ما تحمل المفردة من معنى، حول معنى الشعر، ونظرية الشعر، وأشكال الشعر، وأقدار الشعر إبداعاً وقراءة واستقبالاً؛ وهذه تستحقّ وقفة خاصة معمّقة، لا ريب. ولكن، في عجالة هذا العمود، أشير إلى خطوط رئيسية تسير عليها موضوعات تلك المقالات، كما تشي بها العناوين: هواجس الشعر (حول النشيد والإنشاد في أصل الشعر، طفولة الشاعر والشعر، الوزن والإيقاع، القول والمعنى، شعرية النثر…)؛ الوجه الآخر للتطور الشعري (في ضوء اعتبارات قديمة ومستجدة، مثل الاستماع والإلقاء والطباعة والمعلوماتية، وما إذا كان الشعر مقروءاً أم منطوقاً أم مرئياً)؛ هل مات الشعر؟ لماذا يجب أن يموت الشعر؟ وكيف يمكن توصيف أزمة الشعر؟
وهذه الأحاديث في هواجس الشعر لا تحجب، البتة، أحاديث عدوان في هواجس حياة البشر عموماً، وهاجس السياسة اليومية خصوصاً. وأجدني أستعيد آخر لقاء جمعني بالراحل، هنا في باريس قبل وفاته بأشهر معدودات، حين أهداني نسخة من كتابه «حَيْوَنة الإنسان»، الذي كان قد صدر لتوّه عن دار «قدمس» في دمشق، والذي يتناول مقدار ما فقد البشر من كرامة جَمْعية وتضامن إنساني وإحساس بعذابات الآخر. آنذاك كتب إهداءً مؤثراً، جاء في بعض سطوره: «سيقول لك هذا الكتاب إننا هناك لم نكن نتفرّج محايدين». والحال أنّ الكتاب قال لي هذا، وأكثر، إذْ أنني في الأصل لم أكن بحاجة إلى ما يذكّرني بمواقف الراحل من قضايا البلد السياسية والفكرية والثقافية، وما تعرّض له شخصياً من تنكيل ومضايقات.
ولهذا فإنّ استكشاف عدوان، الناقد الأدبي، لا يستكمل ارتسام صورته الحاشدة لتوّها بالتفاصيل، فحسب، بل يفتح الصورة ذاتها على مزيد من العلائم والقسمات، خاصة تلك التي تُظهر دأب الراحل على توصيف أواليات الاستبداد والفساد؛ من مباذل «سرايا الدفاع»، إلى قبائح التشبيح، مروراً بأكاذيب… نشرة الأحوال الجوية!