داعش أوروبا: المنبع قبل المصبّ – صبحي حديدي

Article  •  Publié sur Souria Houria le 25 août 2014

محيرة، بدورها، تلك الحيرة التي تنتاب غالبية ساحقة من المختصين بالحركات الإسلامية المتشددة، والجهادية؛ إذْ يُطرح عليهم، أو يطرحون على أنفسهم السؤال المتكرر: ما الذي يجذب شاباً أوروبياً، ولد وترعرع في أنظمة ديمقراطية، علمانية من حيث قوانينها الوضعية على الأقلّ، إلى اعتناق عقائد متطرفة، ومتزمتة، وعنفية، وتنتمي بمرجعياتها إلى عصور ألفية سالفة، مثل «داعش»؟
هي حيرة محيرة، خاصة حين تصدر عن مراقب غربي يزعم الخبرة، والتبحر العميق، سواء في شؤون بلده أو في شؤون الإسلام الجهادي؛ لأنّ الأسباب التي تتيح انجذاب شباب الغرب إلى منظمات مثل «داعش»، وقبلها «القاعدة»، ليست كثيرة ومتشعبة وآخذة في التراكم، فحسب؛ بل هي، أيضاً، واضحة ومعروفة، ولا يحتاج إدراكها إلى تحليلات عويصة.
ليس هنا المقام المناسب لاستعراض تلك الأسباب، أو حتى أهمها، بالطبع؛ ولكن لعلّ من الواجب، في المقابل، أن يبدأ المرء من منبع الظاهرة، قبل بلوغ روافدها ومصباتها. وبهذا المعنى، وقبل البحث في عوامل جاذبية «داعش»، وسطوة فكرة الخلافة، ورغبة البعض في نصرة المظلوم ضدّ الظالم؛ يتوجب الوقوف على العوامل المحلية المختلفة، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية، التي تنفّر الشابّ الأوروبي من مجتمعه، في فرنسا أو بريطانيا أو هولندا أو الولايات المتحدة، وتدفعه إلى السفر آلاف الأميال بعيداً عن أهله وبلده.
ثمة أزمة الهوية، التي يعيشها المتحدرون من أصول غير أوروبية، حتى عند أولئك الذين ولدوا في أوروبا، ودرسوا فيها، ولم يعرفوا أية تربية أو ثقافة أخرى. وثمة أزمة الاغتراب الروحي، العتيقة والمقيمة، التي يمكن أن تعصف بأبناء الثقافة أنفسهم، لاعتبارات شتى قد تبدأ من رفض القِيَم المكرسة، الثقافية والأخلاقية والدينية؛ وقد لا تنتهي عند التوق إلى بدائل خلاصية. وثمة، غنيّ عن القول، أزمات البطالة والمعيشة والتفكك الاجتماعي ومشكلات الحياة اليومية في ظلّ أنظمة اقتصادية طاحنة وقاسية…
كذلك لا يجوز تناسي تلك الحقيقة الكبرى التي تقول إنّ نقل فكرة الجهاد من منظوماتها الفقهية والنظرية الصرفة، إلى تطبيقاتها الفعلية على الأرض وفي الواقع، كانت أساساً قد بدأت كصناعة استخباراتية غربية، وأمريكية بصفة خاصة. وهنا، يصعب على المرء مقاومة إغراء التفكير في تلك «المؤسسة الجهادية» التي أعطت أسامة بن لادن، والأفغان العرب، والطالبان؛ والتي خطط لها، وأطلقها للمرة الأولى، زبغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر.
وفي حوار شهير نشرته أسبوعية «لونوفيل أوبزرفاتور» الفرنسية سنة 1998، أعترف بريجنسكي بأنّ البيت الأبيض هو الذي استدرج السوفييت ودفعهم إلى خيار التدخّل العسكري والوقوع في المصيدة الأفغانية، ثمّ تمويل وتسليح الجهاديين ضدهم. ويسأله الصحافي الفرنسي فانسان جوفير، ألا يندم على دعم الأصولية الإسلامية، وما أسفر عنه ذلك من تدريب وتسليح إرهابيي المستقبل؟ يجيب بريجنسكي: «ما هو الأكثر أهمية من وجهة تاريخ العالم، الطالبان أم سقوط الإمبراطورية السوفييتية؟ بعض الغلاة الإسلاميين، أم تحرير أوروبا الشرقية ونهاية الحرب الباردة؟». ويلحّ الصحافي الفرنسي: ألا يُقال إنّ الأصولية الإسلامية تمثّل اليوم خطراً عالمياً؟ فيردّ بريجنسكي: «كلام فارغ!»…
والحال أنّ ذلك الخطر لم يكن البتة كلاماً فارغاً، في أية حقبة؛ فكيف في أيامنا هذه، حين تصبح «داعش» الشغل الشاغل لقوى الغرب العظمى!