قصّة «أصدقاء صيدنايا»: أقوى ثلاثة رجال في سوريا اليوم
16 تشرين الأول 2013
في صورة نادرة مشتركة، ترتسم الابتسامات على وجوه أقوى ثلاثة رجال في سوريا، وهم يقفون بمحاذاة بعضهم البعض بعد خروجهم من سجن صيدنايا. يظهر في هذه الصورة زهران علّوش”، قائد ’لواء الإسلام‘ والذي بويع فيما بعد كقائد لـ’جيش الإسلام‘؛ ومعه حسّان عبّود (الملقّب بأبي عبدالله الحموي)، قائد ’حركة أحرار الشام‘؛ وعيسى الشيخ، قائد ’لواء صقور الإسلام‘. بعد سنوات أمضوها سويّة في المعتقل منذ اعتقالهم في حوادث متفرّقة –حوالي 2004– بسبب نشاطاتهم الدينيّة، خرج الأصدقاء الثلاثة (برفقة أبي محمد الفاتح الجولاني، أمير ’جبهة النصرة‘) من سجن صيدنايا في منتصف عام 2011 بموجب أوّل مراسيم العفو الرئاسيّة (بتاريخ 31-5-2011) بعد اندلاع الثورة السوريّة، أحد «مكرمات» الرئيس التي حرص من خلالها على إظهار اهتمامه بإرواء عطش شعبه للتغيير، والذي ترافق بجهد جبّار لماكينة إعلامه ظاهرها كذبات سمجة وقصص ملفّقة على الثورة لا يصدّقها حتّى أنصار النظام، ويبرّرها الجميع على أنّها جزء من «الحرب الإعلاميّة»؛ وباطنها ترسيخ للقناعة بأنّ الثورة السوريّة ثورة طائفيّة، ومطالبها ليست سوى مطالب إسلاميّة بحيث لا يتطلّب التغيير المنشود سوى الاستجابة لها –أو للبعض منها– من خلال التبشير بافتتاح قناة فضائيّة دينيّة هي الأولى من نوعها (نور الشام)، والتراجع عن قرار منع توظيف المنقّبات في السلك التعليمي، وإلغاء امتياز الكازينو الأول من نوعه على طريق المطار رغم تكلفته الباهظة… ثم أخيراً إطلاق سراح الإسلاميين ضمن مرسوم العفو الرئاسي.
بالمقابل، تقصّد النظام عدم الالتفات لأغلب المساجين السياسيين الآخرين في سجن صيدنايا، والمحكومين غالباً وفق المادة 306 من قانون العقوبات السوري، والمتعلّقة بالانتساب لجماعات أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة، أو لأولئك المدانين بالتخابر مع دول أجنبيّة كالطفلة طلّ الملوحي التي حوكمت قبل اندلاع الثورة بشهور قليلة، كما ماطل بشكل مستفز بإجراءاته السياسيّة فيما يخص «قانون الطوارئ» و«تعديل الدستور» و«المادة الثامنة»، وتعامل معها باستهتار وبرود، وبتكوين مئات اللجان وبعرقلتها بإجراءات بروتوكوليّة وبيروقراطيّة تكاد تكون طريفة، وكأنّه حرص، أكثر من معارضيه، على إظهار كلّ هذه التغييرات على أنّها شكليّة وحبر على ورق. فالمشكلة ليست هنا، المشكلة مع «الإسلاميين»، هذا ما أريدكم أن تفهموه، وإجراءات من قبيل إغلاق «كازينو» تلامس صلب الأزمة أكثر بكثير من نسف كلّ الدستور!
قبل خروج «أصدقاء صيدنايا» من السجن بأسابيع قليلة، حوصرت درعا، وفُضّ اعتصام الساعةالأكبر من نوعه في مدينة حمص بطريقة وحشيّة من قبل قوّات النظام، واستُفزّت القرى والمدن الثائرة بشتّى الوسائل القمعيّة، مع تسهيل متعمّد لدخول السلاح لها عبر الحدود. وبعد خروجهم بأقلّ من أسبوع، تحقّق مُراد النظام أخيراً، فكانت مجزرة جسر الشغور التي قُتل فيها حوالي 120 شخصاً من قوى الأمن حسب الرواية الرسميّة، في أوّل تحرّك ثوري مسلّح واسع ومنظّم، يكتسب بالطبع –أو يسهل إكسابه– صيغة «إسلاميّة»، ويساعد في ذلك المكانة التاريخية للمنطقة التي حدثت فيها المجزرة!
لم يمض وقت طويل على خروجهم من السجن قبل أن يؤسّس الأصدقاء الثلاثة أكبر ثلاثة تشكيلات عسكريّة معارضة على امتداد سوريا، إذ أعلن عن تشكّل ’صقور الشام‘ في 25 تشرين الثاني من عام 2011، وتشكّل ’لواء الإسلام‘ في شهر آذار من عام 2012، وبدأ تشكيل ’لواء أحرار سوريا‘ في 25 تمّوز من عام 2012، هذا بينما عاد صديقهم الرابع (الجولاني) من رحلة إلى العراق في ذات الفترة ليؤسّس ’جبهة النصرة‘.
تختلف التقديرات حول العدد الدقيق للمقاتلين الذين يخضعون لقيادة أصدقاء صيدنايا، لكن تتفق جميعها أنّهم يقودون العدد الأكبر من مقاتلي المعارضة السوريّة. فبينما يتزعّم زهران علّوش ’جيش الإسلام‘ الذي نتج عن توحّد 43 فصيلاً عسكرياً، ويضمّ تقريباً 30 ألف مقاتل، يُعتقد أنّ ’حركة أحرار الشام‘ هي أكبر لواء عسكري في سوريا بـ 18 ألف مقاتل، ويبلغ العدد التقريبي لمقاتلي ’صقور الشام‘ حوالي 9 آلاف مقاتل، بينما تبدو ’جبهة النصرة‘ أصغر هذه المجموعات من حيث العدد، لكنّها لا تقلّ قوّة عنها بفعل الانضباط والعتاد والقدرات القتاليّة؛ وهو ما يعني أنّ الأصدقاء السابقين في سجن صيدنايا أصبحوا اليوم يقودون حوالي 60% من مقاتلي المعارضة على الأراضي السوريّة.
يمكن لنا وفق المعطيات السابقة أن نصوغ بسهولة فرضيّة مؤامراتيّة تشبه تلك التي نعتقد بموجبها أنّ «داعش» الدخيلة حديثاً على الخارطة العسكريّة مخترقة بشكل كبير من النظام، وأن ّالعديد من مقاتليها ينسّقون بشكل مباشر أو غير مباشر مع النظام، كما يحدث مثلاً في حالات آبار النفط، إذ إنّ في قصّة أصدقاء سجن صيدنايا ما يذكّرنا بدور النظام في تسهيل إرسال المقاتلين للعراق وبالعلاقات التي جمعته، سراً حيناً وعلانيّة حيناً، مع مروجّي الفكر الجهادي ومؤسسي تنظيم القاعدة في بلاد الشام.
ويمكن بالمقابل أن نصوغ فرضيّة أخرى تجعل من أصدقاء صيدنايا أبطالاً، خرجوا من رحم الظلم والاضطهاد وظلام السجون، دون أن نغفل أنّ الفصائل العسكريّة التي يقودها الأصدقاء تختلف عن غيرها وتشترك فيما بينها في كونها تتمتّع بالسمعة الأفضل بين المدنيين؛ هي عموماً الأقلّ إزعاجاً والأندر تعديّاً على الممتلكات الخاصة، وتحرص أينما حلّت على تشكيل «هيئات شرعيّة» تضمن من خلالها الحقوق الخاصّة والعامة، والأهم من ذلك ما يُعرف عنها من تفانٍ في القتال ودورها الكبير في عمليّات التحرير من درعا وصولاً لدمشق ومروراً بريف إدلب حتّى حلب والرقّة. بل يمكن القول دون مبالغة أنّ فضلاً كبيراً في عمليّات التحرير التي جعلت المعارضة تسيطر اليوم على أكثر من نصف سوريا يعود لـ«أصدقاء صيدنايا». بالمقابل، تنهمك «داعش» في إدارة الأراضي التي تحتلّها وتأسيس أرضيّة مؤسّساتية وتبشيريّة لها فيها، دون مبالاة حقيقيّة بالحرب مع النظام قدر اهتمامها باعتقال ناشطي الثورة وفتح جبهات مع القوى الكرديّة والجيش الحر، وتبدو مشاركاتها الفعليّة في المواجهات ضد النظام معدودة ومحدودة جداً، أبرزها (بل ربّما أوحدها) تحريرها لمطار منّغ العسكري، في عمليّة استمرّت شهوراً طويلة وشاركت هي فيها باللمسات الأخيرة فقط.
بين الفرضيّتين، بين من يضع «أصدقاء صيدنايا» في خانة «داعش» وبين من يجعل منهم أبطالاً وفرساناً، سيتأرجح السوريّون، وسأكتفي بأن أختار لنفسي مسلكاً ثالثاً يبتعد عن الفرضيّات المؤامراتيّة وعن قدسيّة الأفراد، لأكتفي بالتنويه على ما هو مؤكّد من كلّ ما سبق: لقد دفع النظام بالثورة إلى حيث أراد تماماً، وبشكل ممنهج ومدروس إعلامياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً، احتاج للتنسيق مع أفراد وجماعات حيناً، وفي أحيانٍ غالبة هيّأ التربة الخصبة التي لا يمكن أن تحصد عنها إلا المحصول الذي يريده هو. ورغم كلّ ما حدث منذ أن صدر مرسوم العفو الأوّل… لم ينقلب السحر على الساحر بعد.